المنشور

هل حقاً يستطيع؟



الولايات
المتحدة الأمريكية مهمة للعالم ليس فقط بما تمتلك من طاقات اقتصادية
وبشرية ومن سوق استهلاكية ضخمة تعتبر مصدراً أساسياً لصادرات، وبالتبعية،
لنمو عديد البلدان في القارات الخمس (بحسبان أمريكا الجنوبية)، وإنما أيضاً
لاعتبارات حفظ التوازن الدولي وترجمته المتمثلة في السلم والتعاون
الدوليين .


ولذلك
فإن عدم استقرارها، اقتصادياً، وبالتبعية أيضاً، اجتماعياً، يشكل مصدر قلق
ليس فقط لأسواق المال العالمية، وإنما لكل القوى العالمية الناشطة في
مختلف مجالات دعم السلم والتعاون الدولي . والولايات المتحدة اليوم هي بأمس
الحاجة لعملية إصلاح (أسقطنا عليها في مقال الأسبوع الماضي اسم
“بيريسترويكا” استعارةً من الاسم الذي أطلقه آخر رئيس للاتحاد السوفييتي
ميخائيل جورباتشوف على برنامجه الإصلاحي) تطال، ولو جزئياً، آليات توزيع
صافي إجمالي الناتج المحلي للبلاد، وتخفف من سطوة الحلقة الضيقة من أصحاب
الرساميل الكبيرة، على صناعة وتنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية،
والسياسية بطبيعة الحال، التي تقرر مصائر أفراد المجتمع الأمريكي بأسره . 


الرئيس باراك أوباما استطاع أن يحقق المفاجأة ويصل إلى سدة الرئاسة الأمريكية، يعود الكثير من الفضل في حصولها، إلى الوعد بالتغيير (Change)،
وربط هذا الوعد بالتأكيد لناخبيه على قدرة الأمة الأمريكية لإحداث هذا
التغيير . وخلال السنوات الأربع الأولى من حكمه أثبت أوباما أنه ينتمي إلى
تلك الصفوة القليلة من الرؤساء الأمريكيين الذين جاؤوا إلى السلطة لا للسير
على خطى أسلافهم في تأدية مهامهم الموصوفة في تكليفاتهم وتخويلاتهم
الرئاسية، وإنما ليتركوا من خلفهم أثراً بالغاً في حياة بلادهم الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية .


وقد
أدرك الرئيس أوباما، منذ البدء، أنه لكي يتمكن من التفرغ بشكل كبير لتحقيق
أهدافه داخل بلاده، وداخل مؤسسة الحكم وآليات عملها، لابد أن يقلل
انشغالات والتزامات بلاده بالشأن الخارجي إلى حدود قصوى . فكان الانسحاب من
العراق وجدولة الانسحاب من أفغانستان، و”المخافرة” في التدخل الأطلسي في
ليبيا . وفي هذا السياق أيضاً يمكن للمرء أن يضع جولة وزير الخارجية
الأمريكي الجديد جون كيري إلى عدد من البلدان الحليفة في مناطق العالم
المختلفة، وقبله نائب الرئيس جو بايدن في مؤتمر الأمن والتعاون الدولي الذي
عقد في ميونخ مؤخراً، ومكاشفتهما لحلفاء بلادهما بأنها لم تعد في وارد
مواصلة سياسة التدخلات العسكرية بسبب أوضاعها المالية، وهي جولات تعيد إلى
الأذهان الجولات المكوكية التي قام بها ميخائيل جورباتشوف لبلدان أوروبا
الشرقية الحليفة لموسكو آنذاك وإخطار حكوماتها أن موسكو ستنشغل بمشروع
إعادة بنائها الداخلي ولن تستطيع مواصلة توفير الدعم والغطاء والحماية لها .


ومع
ذلك فحتى هذه الإصلاحات الطفيفة التي يحاول الرئيس أوباما إنفاذها، والتي
لا تطال جوهر النظام ولا آليات عمله، تطرح عديد الأسئلة . . من قبيل: هل
حقاً يستطيع؟ . . وذلك في ظل تشبث جميع قلاع الرأسمالية في أوروبا بروشتات
مذاهبها الرأسمالية التقليدية رغم العواصف الهوجاء التي تضرب اقتصاداتها
منذ خريف 2008؟ وهل تستطيع فعلاً حليمة ترك عادتها القديمة، بمعنى هل
يستطيع النموذج الرأسمالي الأمريكي الاعتماد على نفسه وعلى قدراته الذاتية
والتوقف عن الاعتماد على سطوته وهيمنته على المنظمات الدولية (صندوق النقد
والبنك الدوليان والأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة على سبيل المثال)، وعلى
قواعده العسكرية المزروعة في مختلف بقاع العالم، وعلى أساطيله الحربية
المتواجدة والمبحرة في كافة بحار العالم ومحيطاته، وعلى قوة ردعها النووية
والبالستية، لإحداث الفارق على تنافسيتها وانتزاع عقود المناقصات
والمشروعات لشركاتها؟ يضاف إلى ذلك ملف العجز في الموازنة العامة للبلاد
لعام ،2013 المقدم إلى الكونغرس في 13 فبراير/شباط 2013 والبالغ (901)
مليار دولار (انخفاضاً من 327 .1 تريليون دولار في عام 2012 و3 .1 تريليون
دولار في عام 2011)، وجبل الدين العام البالغ حتى الثالث من مارس/آذار 2013
(732 .16) تريليون دولار مقابل إجمالي ناتج محلي بلغ في نهاية عام 2012 (6
.15) تريليون دولار، أي ارتفاع نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي
إلى نحو 105% . فضلاً عن أن أوباما سوف يضطر لإضاعة بعض الوقت للتغلب على
إعاقات وضغوط تحالف قوى اليمين المتطرف، خصوصاً جماعات الضغط المحسوبة على
أتباع الكنائس المسيحية المتصهينة وشبكة لوبيات الرأسمال اليهودي والجماعات
اليمينية المنظمة في تشكيلات شبه عسكرية ذات النزاعات القريبة من منزلة
الفاشية إن لم تَدِن بمذهبها .


ومع
أن أوباما يجاهد لتقليص تكلفة الالتزامات المترتبة على التواجد والانتشار
الاستراتيجي الخارجي، إلا أن هذا المسعى ليس كافياً لزيادة رصيد الوقت
المطلوب إنفاقه على جهود “إعادة البناء” الداخلية . وأربع سنوات هي فترة
قصيرة للغاية .


كذلك
فإن الرئيس أوباما يفتقد إلى نصير أو أكثر من قادة الدول الأوروبية
الحليفة يتشارك معه في الرؤية المستقبلية للنظام الرأسمالي ومؤسسات وآليات
عمله، والحاجة إلى إطلاق ورشة إعادة بناء لكل ما صار معطوباً أو عاطلاً أو
أقل إنتاجيةً أو أقل مواكبةً لشروط واستحقاقات التنافسية العالمية البالغة
الشراسة .


الولايات
المتحدة بالتأكيد لها وزنها الراجح في الحياة الدولية وبإمكانها التأثير
في أي مجرى من مسارات العلاقات الدولية، وفي وسعها، بالتالي، الاستغناء عن
أي دعم أو مؤازرة لمبادراتها الإ صلاحية الوطنية . هذا صحيح ولكن هذا ممكن
فقط في حال توفر إجماع طبقتها السياسية على إحداث هذه النقلة . أما وإن
البلاد منقسمة على نفسها إلى نصفين . . نصف مع إصلاحات الرئيس أوباما،
والنصف الآخر تقريباً مع إبقاء البلاد في قبضة اتجاهاتها المحافظة، فإن
الرئيس أوباما وفريقه الإصلاحي يصبحان في أمس الحاجة إلى دولتين أوروبيتين
مركزيتين، على الأقل، تدعمان نهجه الإصلاحي ورؤيته المستقبلية .