المنشور

الروح البونابرتية



بعد
الحملة الفرنسية على ساحل العاج، وبعد الحملة الفرنسية التالية في ليبيا،
ها قد جاء الدور على جمهورية مالي التي تحدها من الشمال الجزائر ومن الغرب
موريتانيا ومن الشرق النيجر . ماذا دهى الساسة الفرنسيين؟ لكأنما حنوا إلى
زمن الحملات البونابرتية .


كان
الاعتقاد بعد خروج نيكولا ساركوزي من الإليزيه أن خليفته فرانسوا هولاند
سوف يكبح الاندفاعة الحربية الفرنسية نحو الخارج، في ضوء ما طرحه من عناوين
في برنامجه الانتخابي والاتجاهات العامة لخطابه السياسي . فإذا به يتصرف
عكس ذلك .


إنه
لأمر غريب حقاً، كيف لقائد وصل إلى سدة الحكم في بلاده بوعد إنقاذ الموقف
المالي لبلاده وتجنيبها الهبوط الارتطامي في القاع، من خلال زيادة غلة
الجباية الضريبية باللجوء إلى إجراءات ظلت الرأسماليات الغربية تتحاشى
الاضطرار للاستعانة بها مثل فرض ضريبة على العمليات المالية، وزيادة نسب
الضرائب المفروضة على الأثرياء وأصحاب المداخيل العالية – يقوم في الوقت
ذاته بالانخراط في حروب بذرائع جاهزة، رغم ما تنطوي عليه من فتح اعتمادات
جديدة في بند المصروفات بموازنة الدولة هو من أسوأ بنود الإنفاق لمصممي
السياسة المالية ولمديري مخصصاتها الإنفاقية عبر الموازنة العامة . والقصد
ينصرف تحديداً وبطبيعة الحال إلى الحرب التي قررت فرنسا أخذ زمام المبادرة
لخوضها في مالي ضد الجماعات الإرهابية التي قررت اختطاف وابتلاع هذا البلد
الإفريقي بأكمله .


فما
الذي يجعل السياسة الخارجية الفرنسية نشطة إلى هذا الحد؟ لحد استخدام كل
فروع قواتها المسلحة في البلدان التي تشهد نزاعات واضطرابات وأعمال تمرد
واسعة النطاق، كما هي الحال في جمهورية مالي؟


كثيرة هي التأويلات التي تحاول تفسير هذا المنحى الحربي – إن جاز التعبير -  في
السياسة الخارجية الفرنسية، لعل أقربها للمنطق الموضوعي، ذلك الذي يذهب
إلى أن الانخراط النشط للآلة العسكرية الفرنسية في الشؤون الدولية،
وتحديداً في القارة الإفريقية التي تشكل مسرح عمليات هذا الانخراط، مرده
الانزعاج الفرنسي من التمدد التوغلي للنفوذ الصيني والنفوذ الروسي في
القارة السمراء، حتى ولو اقتصر حتى الآن على الجوانب الاقتصادية . صحيح أن
فرنسا، شأنها شأن بقية الدول الاستعمارية، قد أنهت عهدها الاستعماري البغيض
في القارة السمراء، إلا أنها لم تتنازل مطلقاً عن نفوذها وحضورها الطاغي
في الحياة الاقتصادية والثقافية والأمنية لمستعمراتها الإفريقية السابقة .
وجمهورية مالي التي تتوفر على بعض الموارد الطبيعية النوعية مثل الذهب
واليورانيوم والنحاس والبوكسيت والمغنسيوم، كانت مستعمرة فرنسية منذ أن
استولت عليها فرنسا أواخر القرن التاسع عشر حتى نيل استقلالها في عام ،1959
وبديهياً فإن فرنسا لن تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي وهي ترى مصالحها في
القارة السمراء وقد أصبحت نهباً لجحافل “الإرهاب الصحراوي” الذي راح يتمدد
تحت أسماء فرعية مختلفة للتنظيم الأممي “القاعدة”، مهدداً باكتساح تلك
المصالح .


هذا
“الرئيس العادي”، وهي اللازمة التي رافقت الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند
إبان حملته الانتخابية، الذي مازال وفياً لعهده بأن يكون رئيساً عادياً
قريباً من الناس، غير منعزل في قصر الإليزيه الذي يستخدمه “كمكتب” وليس
كمقر رئاسي، حيث يعود كل مساء إلى بيته الكائن في حي عادي بالدائرة الخامسة
عشرة بباريس، ويبتاع حاجيات البيت بنفسه، ويستخدم القطار في تنقلاته
الداخلية، ويتوقف عند الإشارات الضوئية الحمراء، على عكس سلفه سركوزي صديق
الأثرياء والنافذين -  إن هذا
“الرئيس العادي” أظهر عزماً أكيداً في توجهه لمحاولة طي صفحة ماضي بلاده
الاستعماري مع الجزائر، وفي تنفيذه لوعده الذي قطعه على نفسه إبان حملته
الانتخابية بزيادة حصة الأثرياء في حصة الجباية الضريبية على المستوى
الوطني (75% على المداخيل السنوية التي تزيد على مليون يورو) . كما بدا
حازماً وهو يبادر لإرسال جيش بلاده لمقاتلة الإرهابيين في مالي ودحرهم
وإنهاء سيطرتهم على معظم أراضي البلاد البالغة مساحتها مليون و240 ألف
كيلومتر مربع التي كانوا احتلوها في غضون الأسابيع القليلة الماضية، من دون
الانتظار لدعم حلفائه في حلف شمال الأطلسي (ناتو) .


قد
يعتبر البعض هذا الصعود اللافت للعسكرتاريا في السياسة الخارجية الفرنسية
ضرباً من الحنين للبونابرتية، بما يعنيه ذلك من نزوغ للمغامرة سواء في
الداخل أو الخارج . . في الداخل حيث استدعت مصادقة الرئيس هولاند على قانون
رفع الضرائب على الأثرياء ردود فعل غاضبة حتى من أوساط الفنانين الفرنسيين
الكبار مثل الممثل الكبير جيرار ديبارديو الذي منحه الرئيس الروسي
فلاديمير بوتين الجنسية الروسية، بعد أن قرر ترك بلاده والعيش في موسكو
التي لا تزيد الضريبة فيها على الأثرياء على 13% مقارنة ب 75% في بلاده،
وكذلك بريجيت باردو التي قد تحذو حذوه . وفي الخارج يبدو تجلي الروح
البونابرتية أكثر سطوعاً كأنها تعيد إنتاج النسخة “البوشية” (نسبة إلى
الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش) من العسكرتاريا .


نعم،
على فرنسا هولاند أن تبطئ من اندفاعها العسكرتاري المغامر في العلاقات
الدولية، وإلا ستجد نفسها غائصه في متاهات مآزقها، ناهيك عن المأزق الأكبر
والأخطر وهو وهو المأزق الاقتصادي .