المنشور

شكري بلعيد ليس الأخير



ها قد وقع ما كان محتم الوقوع، فقد امتدت يد الإرهاب الغادر لتغتال الزعيم
المعارض العنيد أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين في تونس شكري بالعيد أمام
منزله يوم الأربعاء 6 فبراير/شباط 2031. والغريب أن التونسيين قد صُدموا صدمة
عنيفة من هول الجريمة وكأنهم أفاقوا فجأة على انفجار بركان ظلوا يتعايشون على مدى
عامين مع أدخنتـه المغبرّة التي ينفثها في جو مدينتهم الهادرة على وقع الهزات
الارتدادية لثورتهم التي وشَّحوها بالياسمين – فانطلقوا معبئين بجام غضبهم إلى
الشوارع والساحات لتفريغ تلك الشحنات الفائضة من الغضب المحبوس داخل صدورهم في وجه
الذين أوصلوا البلاد إلى هذا المنعطف الخطير، والذي صارت التصفية الجسدية
للمعارضين لقوى الاستبداد الجديدة التي صعدتها المصادفة التاريخية لثورة الياسمين
الفجائية، إلى سدة الحكم، إحدى سماته. 
  
ومع كل التقدير العميق لهذه المشاعر الإنسانية العفوية النبيلة، فمن الحق
القول انه ما كان للكثيرين ممن خرجوا في هبة الغضب تلك، خصوصاً أولئك المحسوبون
على الوسط الواعي والمدرك لخط سير وقائع الأمور، أن يقفوا اليوم مشدوهين من هول
الصدمة. فلقد كان كل شيء بائناً للعين المجردة وللعقل غير الخامل وللآذان
“المفتحة”، لدرجة أن الشهيد شكري بالعيد نفسه في لقائه الذي أجرته معه
“الخليج” قبيل ساعات من اغتياله، قد أكد أن اغتياله واغتيال نشطاء آخرين
أضحى مسألة معجلة الوقوع لا محالة حين أشار إلى أن التهديد بقتله صار خبزه اليومي
وجزءاً من حياته، ولكن اللهجة صارت أكثر جرأة في الآونة الأخيرة خاصة بعد أن دعا
الحكومة التي يقودها حزب النهضة (إخوان مسلمين) إلى تقديم استقالتها لثبوت فشلها
الفعلي. 
  
وهناك الآن في تونس وفي مصر وفي ليبيا وفي حواضر “الربيع
العربي”، من الموتورين المعبأين أيديولوجياً دينياً، الجاهزين لتنفيذ تعليمات
مشايخهم ومنظري تنظيماتهم. وهو اتجاه ازدهر وتنامى بعد إمساك جماعة الإخوان
المسلمين وحلفائها السلفيين بالسلطة في البلدان المشار إليها عاليه. وقد ساهمت
أنظمة الحكم الجديدة هذه في خلق الأجواء التي أفضت حتماً إلى جرائم الاغتيال السياسي.
فضلاً عن أن القائمين على أنظمة الحكم هذه وجمهورها المتفلت عصبياً أيديولوجياً،
يتوفرون على القابليات النفسية واللوجستية لتنفيذ جرائم التصفيات الجسدية
والاغتيال السياسي. 
  
وكما سبق وأوضحناه في مرة سابقة من أن هؤلاء الاستئصاليين الجدد، لم يحسبوا
حساب العمق الاجتماعي والثقافي للدولة المدنية، وبالتالي توقع ردود أفعال هذا
“العمق” على تهالكم لتحويل دفة مسار الحياة العربية من التحديث والتمدين
إلى التجهيل والتعطيل. وقد وجدناهم حين جوبهوا بسيل الانتقادات والاحتجاجات
الواسعة النطاق ضد ممارساتهم الاستئصالية والإقصائية وتوجهاتهم الاستحواذية،
يسارعون للتخرص والتنصل من الجرائم والاعتداءات التي تنفذها ميليشياتهم وتشكيلاتهم
شبه العسكرية المسماة “رابطات الثورة” بوحي ودفع من أيديولوجيتهم
التكفيرية والاستئصالية تلك. فلقد توهموا أن قتل الآخر المختلف في ظروف تتميز بوتيرة
عالية من الانخراط المجتمعي في الحراك العام يمكن أن يمنحهم الهيبة والشهرة التي
يتحصلون عليها حين يقترفوا تلك الأفعال الإرهابية في ظروف تتسم بالغموض والتدليس
السياسي والخلط المتعمد للأوراق. حدث هذا في مصر وفي تونس وفي سوريا. بعد اغتيالهم
لشكري بالعيد، وحين وقفوا على حجم الغضب الشعبي الذي انفجر في وجوههم سارعوا
لإبعاد أصابع الاتهام والشكوك التي حامت حولهم، بالرغم أن ليس من مصلحة حزب النهضة
وهو حزب حاكم أن يقدم على عمل يهدد استقراره. وهذا صحيح نظرياً، لو كانت لدى
“النهضة” أجندة واحدة علنية وليس أجندتين إحداهما استبطانية تخفي خطط
الحزب وإجراءاتها التنفيذية. 
  
شكري بالعيد المناضل العنيد والشجاع في التعبير عن آرائه ومواقفه في جميع
عهود الاستبداد التي عاصرها، وآخرها العهد “الميمون” لحزب النهضة، من
دون أن يوفر زعامات وقيادات هذا الحزب الطارئ على حكم البلاد التونسية – كان لابد
من إخراسه على الطريقة المعهودة لأعداء الحرية والرأي الآخر المختلف. لم يكن شكري
بالعيد الوحيد الذي تلقى التهديدات بالقتل، فالتهديدات طالت قيادات وناشطين آخرين.
وفي مصر طالت التهديدات زعماء المعارضة لاسيما حمدين صباحي والدكتور محمد
البرادعي. وأنه بموجب رئيس الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة الاجتماعية مجدي
عبدالحميد فإن هناك أوجه شبه كبيرة بين الوضع السياسي في تونس ومصر، مشيراً إلى أن
الثانية تشهد بوادر “الفاشية الدينية بعد التهديدات باغتيال أعضاء جبهة
الإنقاذ وبعض شباب الثورة، وظهور حالات قتل خلال الأحداث الأخيرة طالت عدداً من
شباب الثورة الفاعلين”. وتصب في هذا الاتجاه الفتوى المنسوبة إلى الشيخ محمود
شعبان الأستاذ في جامعة الأزهر بقتل قادة جبهة الإنقاذ. فضلاً عن فتوى ما يسمى
بتنظيم الجهاد، أحد روافد الجماعة الإسلامية في مصر، التي أصدرها أسامة قاسم الثلاثاء
12 فبراير/شباط والتي تبيح تطبيق ما وصفه “بحد الحرابة” على قيادات جبهة
الإنقاذ الوطني”. وهي – أي الجماعة الإسلامية – نفسها التي سيرت مظاهرة
الجمعة 15 فبراير/شباط 2013 تحت شعار “لا للعنف”!! 
  
الراجح، وبحسب المعطيات، الشاخص منها على الأقل، فإن شكري بلعيد لن يكون
الأخير في قائمة استهدافات حركات الإسلام السياسي الإقصائية. فلا تعقدوا ألسنتكم
مشدوهين إذا ما وقعت واقعة أخرى شبيهة. فالحكام الجدد لن تضيرهم زعبرة هنا أو هناك
حول انتهاكات حقوق إنسان أو إعادة بعث محاكم التفتيش مادام الدين محتكراً في
أيديهم يشهرونه في وجه كل من لا يرضون عنهم!