المنشور

عنصرية

لا يمكن في هذا الزمان استغفال الشعوب وسوقها كالأغنام، حتى لو كان لديك
وزارة إعلام مجنّدة، وكتيبة ضخمة من الصحافيين الذين يعملون على تسويق
سياساتك وشتم وتشويه معارضيك.

الشعوب لم تعد تعتمد على التلفزيونات
الرسمية في استقاء معلوماتها، ومن بقي منها يعتمد على تلك القنوات الأرضية،
أصبح يعيش ضمن الفئات المسكينة المستلبة من «محدودي الوعي» وضحلة التفكير.

في
هذا الزمن، هناك فضاءٌ ضخمٌ لتبادل الأخبار والمعلومات، والأهم…
الأفكار. وفي هذا الفضاء يتم تلاقح الثقافات والتعارف بين الشعوب.

الهاتف
النقال الذي كان يُستخدم للاتصال وحفظ الأرقام فقط قبل عشر سنين، احتاج
إلى خمس سنوات ليستقبل الرسائل النصية، أما اليوم فيستقبل آلاف الصور
ولقطات الفيديو والمحادثات والرسائل، ويسهم في نقل التجارب والأفكار، فيما
قد يُسفر عن واحدةٍ من أوسع الثورات تأثيراً في التاريخ.

قبل
أسبوعين، تلقيت فيديو مصوراً مقتبساً من برنامج تلفزيوني أميركي، تم تصويره
بطريقة «الكاميرا الخفية»، في إحدى الولايات الأميركية التي اشتهرت بزيادة
نزعتها العنصرية ضد المسلمين. ولعبت ممثلة أميركية دور امرأة مسلمة محجبة،
بينما لعب زميلها دور صاحب السوبرماكت، الذي يرفض بيعها، ويتلفظ عليها
بألفاظ عنصرية أمام زبائن آخرين.

الفوج الأول من الزبائن انضموا إلى
البائع وأيدوه في موقفه العنصري، وعند منتصف البرنامج بدأ الموقف يتحوّل
إلى بعض التحفظ والنفور، ولم نصل إلى نهاية الحلقة إلا وقد حدث تحوّلٌ
حادٌّ ضد البائع، واحتدم الخلاف بينه وبين بعض الزبائن، الذين انتقدوه
وهاجموا موقفه العنصري، وهدّد بعضهم باللجوء إلى القضاء لمخالفته القانون.

كان
الدرس واضحاً وبليغاً، حتى في هذه الدولة التي لم تتخلص من لوثتها
العنصرية إلا في الستينات، ظلّت العنصرية مترسّبةً في بعض الولايات.

ومخرج البرنامج لم يكن يهدف إلى إضحاك الجمهور أو الضحك عليه؛ وإنّما كان يهدف إلى تبصيره بمواضع مرضه ليبرأ من الأسقام.

هذا
الفيديو وأمثاله المئات، يتدفق يوميّاً عبر أجهزة الاتصال الحديثة، ويُحدث
موجات ارتدادية في الفكر ويدفع إلى إجراء المقارنات، سواءً على المستوى
الفردي أو الجماعي. وهو حراكٌ غير مرئي، يهز البنية الفكرية التحتية
للمجتمع، فيما ظلت الأنظمة تلاحق معارضيها وتلقي بهم في السجون، وتقبض على
النشطاء الحقوقيين وتلفّق لهم التهم المضحكة ليطول مكثهم في المعتقلات
لأطول فترةٍ ممكنة.

في خضم هذه التحولات الكبرى، يحدث هناك فرزٌ
واضحٌ في المواقف، فينحاز البعض إلى القيم والمبادئ والأفكار ودعوات إصلاح
المجتمع، وينحاز آخرون إلى الإبقاء على الأوضاع كما هي، بما فيها من فساد
ومظالم وانتهاكات؛ لأنها ببساطةٍ تضمن لهم مصالحهم والامتيازات. تلك هي
خلاصة القضية.

العنصرية بما فيها من شذوذ، ومنذ القدم، كانت المصالح
تقف وراءها. أينما وجدتَّ عنصريةً وعنصريين، ابحث عن المصالح والنِعَمِ
التي يتقلّبون فيها بغير وجه حق، أو يطمعون في اغتنامها. وهو ما يسمح
لطبيبٍ بالشماتة بزميلٍ له تم فصله من عمله بل والتحريض عليه، لأنه التزم
بقَسَمِه الطبي وضميره في معالجة جريح وإنقاذ روح مصاب.

العنصرية
ثقافةٌ معاشَةٌ يتربى المرء عليها في منزله ومحيطه وعمله وتليفزيونه، قبل
أن تتحوّل إلى سلوك عدواني، وشتائم في «فيسبوك»، ولغة تنضح بالبذاءة في
«تويتر». إنه المرض الذي لم يفلح 14 قرناً من تعاليم الإسلام في علاجه من
بعض النفوس.


قاسم حسين

صحيفة الوسط البحرينية