المنشور

زنجبار . . عينة للآتي


كان الاعتقاد السائد حتى إلى ما بعد نجاح حركات الإسلام السياسي، خصوصاً منها حركة الإخوان المسلمين، في ركوب موجة الثورات الشبابية العربية ضد الاستبداد والفساد، والوصول إلى سدة الحكم في أكثر من بلد عربي، أن هؤلاء الإسلاميين الحركيين قد استفادوا من انخراطهم في معمعان السياسة العربية الجارية، ومن دينامياتها المؤسسية، ومما كان يشاع عن قيام هذه الجماعات والحركات بمراجعات فكرية نقدية لمذاهبها ومناهجها الأيديولوجية ولخطاباتها السياسية، تناسباً وتناغماً مع تطورات ومستجدات وإفرازات مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمجتمعات العربية الناشطة في دورة حياتها اليومية .

ولكن يبدو أن الطبع غالب، في غالب الأحيان، على التطبع . فما كادت تلك الجماعات الإسلامية تظفر بمبتغاها الذي سعت إليه على مدى ثمانية عقود، حتى “عادت حليمة” إلى سابق عهدها الذي عاهدت نفسها عليه، وهو الانفراد بعملية تحويل المجتمع بكليته نحو الوجهة المقررة سلفاً في خططها المعلنة وغير المعلنة . فلقد راكمت هذه الجماعات أموالاً طائلة على مدى العقود الماضية عبر مختلف أنواع الأنشطة، المشروع منها وغير المشروع، ولديها خزين وفير من الأيديولوجيا التعبوية القادرة على الإقناع لحد التضحية بالنفس في سبيل القضية محل الترويج . ولكن هذه الجماعات الإسلامية بهذين المعطيين، على أهميتهما، لا تملك أن تنقل المجتمعات العربية والإسلامية نحو غد أفضل، لأنها لا تملك في الواقع رؤية تقدمية، وطنية وكونية . في هذا السياق سنعرض في ما يلي لأحد الأمثلة ونترك الحكم من بعده للقارئ الفطن لعقد المقارنة واستخلاص البيّنة على ما نزعم .

زنجبار أو “ساحل السود”، هي عبارة عن جنة استوائية ذات طقس مداري معتدل، تحفها النخيل المدارية الباسقة ورمال السواحل الناصعة البياض والمناظر الطبيعية الخالبة للألباب، حتى ليكاد الناظر إليها يجزم بأن هذه القطعة من الكوكب الأرضي هي من الأماكن القليلة المتبقية التي لم تفقد عذريتها بعد . إنها عبارة عن أرخبيل من الجزر الواقعة في المحيط الهندي إلى الشرق من القارة الإفريقية، وهي تشكل جزءاً من تنزانيا يتمتع بحكم شبه ذاتي، حيث تقع كبرى جزر الأرخبيل “أونجوجا” على مسافة 25-50 كيلومتراً من الأرض الأم . وبسبب غناها التراثي، من حيث إنها الوحيدة المتبقية من العصور القديمة في شرق إفريقيا، لذا فهي مسجلة ضمن التراث العالمي .

بموجب اتفاق بين الإمبراطوريتين الاستعماريتين بريطانيا وألمانيا في عام ،1890 أصبحت زنجبار محمية بريطانية . وظلت كذلك حتى العام 1963 حين نالت استقلالها الوطني وصارت مملكة دستورية، وفي العام 1964 اندمجت مع الأرض الأم تنجانيقا ضمن ما سُمي الجمهورية المتحدة لتنجانيقا وزنجبار قبل أن يتغير اسمها إلى الجمهورية المتحدة لتنزانيا، حيث بقيت زنجبار إقليماً يتمتع بحكم شبه ذاتي ضمن تنزانيا . يبلغ تعداد سكان زنجبار مليون نسمة جلهم من المسلمين (نحو 97%) المنتمين للمذهب الصوفي المعتدل والمتكرس منذ أن دخل الإسلام إلى زنجبار قبل نحو 1000 عام . وتعتمد الدورة التوسعية لاقتصاد البلاد على قطاع السياحة الذي يشكل المصدر الأساس للعملة الصعبة التي تدخل مختلف أقنية الاقتصاد وخزينة الدولة . حيث يؤم شواطئها ومعالمها السياحية أكثر من 170 ألف سائح سنوياً . ولكن نمط الحياة الذي يوفر لهذه الدورة الاقتصادية والاجتماعية نوعاً من الاستدامة، صار مهدداً مذ بدأ الإسلام الراديكالي التسلل إلى زنجبار عبر 2000 مدرسة دينية على غرار المدارس الدينية في أفغانستان وباكستان التي خرجت من رحمها حركة طالبان الأفغانية وحركة طالبان الباكستانية . ويقف وراء احداث النقلة باتجاه الإسلام الراديكالي في زنجبار كل من الشيخ فريد هادي أحمد الذي يتزعم ما تسمى ب”مجموعة الصحوة” ونائبه الشيخ عزاني خالد حمدان اللذان يريدان هما وجماعتهما تحويل زنجبار إلى نسخة من أفغانستان طالبان تقوم بتطبيق الحدود الشرعية . فرغم أن 97% من سكان البلاد مسلمون إلا أن عزاني حمدان يقول إن هذا غير كافٍ ولابد من تحويل بقية ال 3% من المسيحيين والهندوس إلى الإسلام رغماً عن ان دستور البلاد ينص على حرية الديانة . وهو يطالب بتطبيق أحكام الشريعة على كل الذين لا يطبقون شرع الله، على حد زعمه . ففي شهر مايو/ أيار الماضي عمدت مجاميع مما تسمى ب”مجموعة الصحوة” الإسلامية المتطرفة إلى اشعال الحرائق في كنيستين في أعقاب القاء السلطات القبض على قائد هذه المجموعة الشيخ فريد هادي أحمد بتهمة الاضرار بالأمن ومصالح البلاد . ويطالب هؤلاء المتطرفون بالانفصال عن تنزانيا ذات الأغلبية المسيحية . حيث تصدح إحدى المحطات الإذاعية الناطقة باسم هذه الجماعات على مدار الساعة ببث روح الكراهية والتحريض ضد المسيحيين . وهناك جماعات أخرى تتشارك مع “الصحوة” في نسختها الطالبانية ومطالبتها بإلغاء كل ما يمت للعصر وقوانينه المنظمة لعملية إعادة الإنتاج الكلية المجتمعية وبتطبيق الشريعة في البلاد بصلة .

هذه الانعطافة الحادة التي يُراد لزنجبار سلوكها، بالقطع التام مع تراثها وحاضرها ومستقبلها الذي يعتمد على هذا الخزين وعلى غناها الطبيعي الذي حباها الله به، ليست مقطوعة الصلة والسياق عما جرى في السنوات القليلة الماضية في بعض بلدان القارة الإفريقية، ومنها دول شرق إفريقيا المجاورة، من ازدهار بذرة التشدد الإسلامي التي تم زرعها وترويجها هناك، حيث أثمرت عن الامتدادات التي صرنا نعرفها لتفريعات تنظيم القاعدة الإرهابي مثل “حركة الشباب” الصومالية وحركة “بوكو حرام” النيجيرية، إضافة إلى امتدادات مؤسسية أخرى لهذه التشكيلات المتطرفة داخل تنزانيا وكينيا . بل إن الجماعات المتطرفة في زنجبار، وكما تنقل الأخبار، لها صلات متينة، مالية ولوجستية وبشرية، مع حركة الشباب في الصومال .

ردة فعل الدول الغربية على هذه التطورات الخطرة في زنجبار لا تتجاوز حتى الآن بعض التغطيات الإعلامية اليتيمة والمنعزلة التي تقتصر فقط على التحسر على ضياع فرص السياحة والاستجمام في ظلال سواحل وطبيعة زنجبار . فلم تعلن أية حكومة غربية مثلاً عن قلقها من المنحى الخطر الذي تنحوه زنجبار الذي يمكن أن يهدد الاستقرار في المنطقة . لقد اعتاد الغرب غض الطرف عن التهديد الذي تمثله هذه الجماعات لمجتمعاتها . بل إنه يقد يمد يد العون والتعاون معها إذا تطلبت المصلحة ذلك، كما حدث حين تعاونت الولايات المتحدة مع حركة طالبان في عام 1999 حين كانت الأخيرة في السلطة من أجل تسهيل مد أنبوب لنقل الغاز من تركمانستان إلى باكستان عبر الأراضي الأفغانية ومن ثم تصديره إلى أسواق الاستهلاك العالمية . وكان الوسيط في تلك الصفقة زلمان خليل زاد والرئيس الأفغاني الحالي حامد قرضاي .

أما الأكيد فهو أن هذه الجماعات المتطرفة التي تقود زنجبار، وقس عليها بقية البلدان النظيرة لها في “المصير”، إلى منزلقات خطرة، فلسوف تصطدم بالضرورة بمجتمعاتها مبكراً لأن هذا النهج سيرتد وبالاً على الاقتصاد وعلى الناس .

 
حرر في 25 يناير 2013