المنشور

الانتقال من سياسة خُذْ وطالب إلى طالب وطالب؟!

من أكثر النصائح السياسية التي راجت خلال السنوات الماضية في بعض الدول
العربية هي ضرورة الأخذ بمنهج «خذ وطالب». جوهر ذلك النصح، هو أن العَجَلَة
في نيل المطالب، أمرٌ ضارٌّ بالعمل البيروقراطي للدولة.

وبالتالي، فإن الموضوع يقتضي المشي على هَوْن، فضلاً عن ممارسة السياسة، بطريقة تصاعدية، تكتسب خلالها الأحزاب تجربة العمل السياسي.

والحقيقة،
أن هذه النصيحة جيدة، وفيها من الحصافة الشيء الكثير. بل نزيد على ذلك،
وهو أن دولاً مختلفة، اتبعت مثل هذا النهج، ونالَت استقراراً سياسياً
واجتماعياً واقتصادياً. ودول أخرى خالفت ذلك، فهَوَت وتأزمت.

فحَرْق
المراحل، أمرٌ مُضرٌّ في العمل السياسي، وتجربة الولايات المتحدة الأميركية
ماثلة أمامنا. فهي لم تُعطِ النساء حق الانتخاب إلاّ بعد مئة وثلاثة
وثلاثين عاماً من استقلالها. بل إن الله تعالى «خَلَقَ السَّموَاتِ
والأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ»، كما يحب البعض أن يستشهد بهذا المثال،
الذي يجب أن يطابق مثال المصداق فيه الموضوع.

لكن المشكلة هي عندما
يُنادَى بهذا النصح صباح مساء، دون أن يكون الناصح مستعداً لأن يفعل ما
يأمر به. أن يُقال للشعوب طالبوا بما تريدون، ثم خُذوا ما تنالونه رويداً،
ثم طالبوا مرة أخرى، لتنالوا أشياء أخرى. ثم يكتشف الناس، أنهم دخلوا في
مشوار من الطريق الهلامي واللامرئي، حين يطالبون بما يريدون دون أن ينالوا
شيئاً، ثم يطالبون ويطالبون حتى يأذن الله في أمرهم، فيتحوَّل الأمر إلى
شيء من العبثية السياسية التي لا يُرتجَى منها شيء سوى حدّ الكفاف (إن
وُجِد).

لا يمكن للشعوب أن تؤمن بمشروع الدولة، إلاَّ عندما يكون ذلك
المشروع متجاوزاً للثرثرة والتسويف، إلى مرحلة مفهومة وواضحة المعالم بها
من الجدِّية الواضحة، والتبادل الحقيقي للمنافع والشرعيات والتسالم. لا
يمكن للشعوب أن تستوعب خطاب حكوماتها، إلاَّ عندما تتحسَّس حجم التغيير
اللازم، الذي بات يفرض نفسه على حياتهم، وفعلهم اليومي.

أمرٌ آخر يجب
أن يكون مفهوماً، وهو توضيح معنى ومضمون التمرحُل. فاجتياز المراحل بشكل
طبيعي، لا يعني الاستغراق في تلك المراحل، بل يعني إشباعها بطريقة معقولة،
وليس بطريقة تأبيدية وذرائعيَّة. فالاستغراق عادة ما يفضي إلى التِّيْه،
وغياب الأسباب، وبالتالي، الإضرار بشرعية الأنظمة الحاكمة، باعتبارها
مُخِلَّة بعنصر التبادل مع شعوبها.

كذلك يجب الانتباه إلى قضية بالغة
الخطورة، وهي ضرورة اتفاق المرحلة «الحاضرة» مع أعمال أخرى مصاحِبَة. إذ
ليس من المعقول، أن تقبل الشعوب بمعادلة «التمرحُل» في الوقت الذي ترى فيه،
أن أنظمتها لازالت تعبث في ذات المرحلة «الحاضرة» بفسادها وتمييزها
وظلمها، وبالتالي، يُفقِد هذا الأمر المرحلة من عنصر المراكمة، ليجعل من
المهمات السياسية والاقتصادية في المرحلة التالية، إصلاح ما أُفسِد في
الأولى، وكأننا رجعنا إلى المربع الأول… وكما يقول المثل الشعبي كأنك
يابوزيد ما غزيت!

فأصل القبول بالتدرُّج هو تثبيت موضوع المراكمة.
بمعنى الولوج في المرحلة التالية تهيؤاً لما هو قادم من مراحل، وليس للرجوع
نحو إصلاح أشياء مضت، وكان إصلاحها منوطاً بأوانها، وليس بما يلاحقها من
زمن فيه من العمل الجديد الكثير. والحقيقة، أن العلاقة هنا حساسة جداً؛ كون
اهتزازها لا يؤثر على توازنها فقط، وإنما يسري على رؤية المستقبل فيها
أيضاً، وكذلك الموقف من كل هذا الامتداد الزمني لمجمل المراحل الموضوعة.

أمر
آخر يمكن الإشارة إليه وهو علاقة «السير المرحلي» بوعي الناس ووتيرة
تفاعلهم السياسي. ففي أحيان كثيرة، يكون وعي الناس متقدماً على الدولة
لأسباب مختلفة. لذا، فإنه حين تعبِّر الجماهير بعدم رضاها عن السَّير
بالوتيرة القائمة، فعلى الأنظمة أن تحاكي ذلك السَّخط، وتقوم بمراجعة منسوب
السرعة البطيء والمتكلِّس. فهذه الجماهير، هي التي تفرض سرعة الإصلاحات
باعتبارها العنصر الأساس في الرابط الاجتماعي، الذي بدوره يخيط الدولة،
وبقوم بممارسة الإدارة فيها، ويتلقف خدماتها وخطابها ويمنحها الشرعية.

نعم،
الدولة تمسك بخيط الربط في ذلك المتغيِّر، فتعيد التوازن السياسي
والاجتماعي، والمطلق إلى صِيَغ مُحدّدة من الأفهام والنشاط السياسي
والتشريعي والقانوني الذي يُسَكِّن من اندفاع الجماهير. فالدولة هي بالأساس
قيمة سيادية تدير السلطة والقوة المادية لديها عبر مؤسسات دستورية ناظِمة
تؤمِّن عدم حصول انشطار سياسي وقانوني واجتماعي واقتصادي وحماية لمناشط
المجتمع/ الدولة، وبالتالي، فإنها معنية بهذه المحاكاة الواجبة.

في المحصلة، يجب ألاَّ نردد شعارات للاستهلاك المحلي والخارجي لا أكثر.

فإن
كان هناك منهج سياسي واضح ومدروس يحصل فيه المواطن العربي على ما يريد
(حتى وإن كان قليلاً) ليطالب بعده بما هو أكثر فأهلاً به، لأنه المنهج
الأضمن له من أيّ حالة انفلات أمني قد تعصف بالبلدان العربية.

لكنه
أيضاً لا يريد أن يسمع شعار فريدريك الأكبر ملِك بروسيا عندما قال «لقد
انتهيت أنا وشعبي إلى اتفاق يرضينا جميعاً، يقولون ما يشتهون وأفعل ما
أشتهي»… لأنه شعارٌ لا يمنح الشعوب والدول سوى الأزمات.

محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية