المنشور

مقاربة تحايلية للتعامل مع المديونيات




بسبب استعصاءاتها على الحلول والمقاربات العلاجية الموصوفة لها والمستخدمة لعلاجها، فإن من الطبيعي أن تستدعي أزمة المديونيات الضخمة في أوروبا أفكاراً واجتهادات مختلفة يمكن أن يُفسَّر تنوعها بخصوبة التفكر والتأمل الاقتصادي إبان الأزمات وابتكاريته وإبداعيته، ويمكن أن يأخذ منحىً تفسيرياً آخر يفيد بما هو سلبي من حيث إن ذلك التعدد والتنوع في مقاربة أزمة المديونيات ينم عن التشتت والتخبط وضياع بوصلة التركيز على الجوهر وليس على الهوامش التي يغرق فيها الجدل العقيم وغير المجدي . من جملة ما طُرح في الآونة الأخيرة من مقاربات لمعالجة أزمة المديونيات العامة (المقصود طبعا مديونيات القارة الأوروبية أساساً التي تستحوذ على معظم القلق العالمي بشأن انعكاساتها الخطيرة على الاقتصاد العالمي)، ان السياسة النقدية تتوفر على محتوى العلاج السحري لخفض ضغط المديونيات .




هذا ما يبشر به صندوق النقد الدولي في تقريره الاقتصادي الذي نشره مؤخراً . فتقرير الصندوق يرى بأن القيادات السياسية في الدول الغنية في الوقت الذي تُشغل نفسها بعناء البحث عن معالجات مناسبة لأزمة مديونياتها العامة، فإنها لا تلتفت إلى جانب في غاية الأهمية – من وجهة نظر الصندوق – وهو المتمثل في كون محافظي البنوك المركزية غير منتخبين، متفحصا في 26 حادثة منذ عام 1875 وصل خلالها إجمالي الدين العام إلى 100% من إجمالي الناتج المحلي، وكيفية خفض هذه النسبة إلى حدها الأدنى .




وبحسب تقرير الصندوق فإن النمو وخفض الإنفاق وزيادة الضرائب لهم دور لا ينكر في خفض نسبة المديونية، إلا أنه يرى بأن السياسة النقدية هي الفيصل في العلاج الناجع . وفي التفاصيل فإن معدي تقرير الصندوق يرون بأن سعر الفائدة المنخفض أو هبوط المعدلات الاسمية للفائدة والتضخم، كانوا، حسب الرصد التاريخي الذي يفترضه التقرير – عوامل رئيسية لخفض نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج . فحين تكون أسعار الفائدة عالية والانكماش سائداً (نقص في المعروض النقدي مفض لانخفاض في المستوى العام للأسعار)، فإن استعادة التماسك والتوازن الاقتصادي (بين الإيرادات والانفاق الشامل لإطفاء المتخلف من المديونيات)، يكون صعباً .




وبإسقاطه لهذه الرؤية المبنية أساساً على تَقَصِّيات وقائع تاريخية اقتصادية، على الواقع الحالي لكيفية تعاطي كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع أزمة مديونياتهما، ينحاز تقرير الصندوق إلى مقاربة السياسة النقدية الأمريكية في ترجيحه صحة تعاطيها مع المديونية العامة ضد مقاربة السياسة النقدية للاتحاد الأوروبي في تعاطيه مع أزمة المديونيات العامة الأوروبية، من حيث ان المقاربة النقدية الأمريكية تجمع بين اللين والتقشف، في حين تميل المقاربة الأوروبية لعلاج أزمتها المالية الى الجمع بين سياسة التقشف الإنفاقي الحكومي والسياسة النقدية المتشددة التي يمارسها البنك المركزي الأوروبي . وهو، أي القرير، يرى بأنه في حين أن واشنطن ستتغلب على أزمتها المالية، فإن المستقبل يبدو حالكا أمام الاتحاد الأوروبي . وإثباتاً لصحة مقولته هذه يستشهد تقرير الصندوق بما فعلته بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى عندما كان دينها العام يشكل 140% من إجمالي ناتجها المحلي وكانت الأسعار ضعف ما كانت عليه قبل الحرب، حيث صممت على دفع كل ديونها المستحقة واستعادة قيمة جنيهها الاسترليني مقابل الذهب، متبعة في ذلك سياسة مالية وسياسة نقدية متشددة وموجعة نتج عنها تحقيق فائض في الموازنة نسبته 7% من اجمالي الناتج، وأدى رفع بنك انجلترا (البنك المركزي) سعر الفائدة بنسبة 7% لكبح الطلب على النقد إلى انخفاض الأسعار الذي جعل سعر الفائدة الحقيقي أعلى من السعر الاسمي (7%) . ولكن النتيجة الإجمالية كانت فشلاً خالصاً، فلقد انخفض إجمالي الناتج في عام 1928 (استغرقت الحرب العالمية الأولى الفترة الممتدة من 1914 إلى 1919) إلى أقل من مستوى عام ،1918 وارتفعت نسبة الدين العام إلى الإجمالي إلى 70% في عام 1930 وإلى 190% في عام ،1933 حيث قضت أسعار الفائدة المرتفعة وانخفاض إجمالي الناتج على مزايا فائض الموازنة .




ويُسقط تقرير البنك هذه السابقة البريطانية في التعاطي مع أزمة دينها العام على ما تمر به إسبانيا وإيطاليا اليوم نظراً لتشابه ظرفيهما مع الحالة البريطانية سالفة الذكر . ولذلك يرى معدو التقرير بأن الدولتين تعملان على استعادة تنافسيتهما فقط من خلال انكماش الأسعار محلياً وليس غبر خفض سعر صرف عملتيهما، وخفض الدين العام فقط عن طريق سياسة التقشف وليس التوسع المقرون بالتضخم . وهذه المعالجة – بنظر تقرير الصندوق – من شأنها أن تؤدي إلى تراجع النمو لسنوات مقبلة وإلى رفع الدين العام في الواقع إلى إجمالي الناتج المحلي .




الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية سلكت طريقاً آخر وهو استخدام أدوات السياسة النقدية من قبل مجلس الاحتياطي الفيدرالي، ومنها تحديداً “إطلاق سراح” التضخم ووضع سقف على عوائد السندات، للتعامل مع مشكلة الدين العام، حيث أدت تلك السياسة إلى شطب (التخلص من) 35% من نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي . ذلك أنه من وجهة نظر تقرير الصندوق فإن استعادة التماسك المالي يبدأ بتخفيضات هيكلية في الإنفاق العام وضرائب مرتفعة مدعومة بانخفاض في معدلات الفائدة الحقيقية (نتيجة “لتنفيس” التضخم)، يمكن أن يساعد كل من الولايات المتحدة وبريطانيا على تثبيت مديونياتهما أكثر مما هو متاح لبلدان منطقة اليورو .




بيد أن التقرير يعترف بأن استخدام هذا التكتيك . .أي استخدام أدوات السياسة النقدية من أجل تنفيس التضخم قليلاً للافادة من فارق سعري الفائدة الاسمي (
Nominal)
، والحقيقي (
Real)
لاستحصال “حسومات” على أصل الدين، لم يعد متاحا اليوم في ظل الإمكانية الواسعة المتاحة أمام رأس المال للفرار لتجنب النزف المدبر له .




ما يطرحه التقرير ويقدمه على أنه مقاربة مستنبطة من التاريخ الاقتصادي غير البعيد، لا يعدو كونه إعادة طرح وتأكيداً لمقاربة رواد الكينزية الجديدة وفي طليعتهم بول كروغمان الحائز على نوبل في الاقتصاد الذي يرى أن المخرج من المأزق المالي الذي تعيشه الولايات المتحدة وأوروبا يكمن في التوسع الإنفاقي، بما يشمل ذلك حِزم التحفيز وليس في السياسات التقشفية الانفاقية، مع الفارق أن كروغمان وأنصار مذهبه لا يدعون إلى التكتيكات التحايلية التي يومئ إليها تقرير صندوق النقد الدولي .