المنشور

حين تصبح حقوق الإنسان سلاحاً ضد أمريكا



تُعدّ
الولايات المتحدة ومازالت، القوة العظمى الأولى في العالم، وهي كانت منذ
نهاية الحرب العالمية الثانية في العام ،1945 ومازالت، اللاعب الأول والأهم
في مناحي الحياة الدولية كافة، السياسية والاقتصادية والتكنولوجية
والاجتماعية والثقافية . فهي التي ترسم للعالم مسارات تطوره وتسهم بقسطها
الأعظم في وضع الخطط والجهود الدولية المكرسة للسير قدماً في إنفاذ الأطر
العملية لخطط هذه المسارات .


ولقد
أعطت الولايات المتحدة لنفسها، باعتبارها القوة العظمى الأولى في العالم،
حق ممارسة الدور القيادي والريادي في شؤون عالمنا المعاصر كافة، تساعدها في
ذلك الدول الأوروبية الواقعة في غربي القارة العجوز التي تتشارك معها في
المحتوى الثقافي للحضارة المعاصرة، وبضمنه، وفي جوهره، النظرة الفلسفية إلى
محتوى التطور المجتمعي المؤسس على الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق
المفتوحة، فضلاً عن الدعم المادي والمعنوي الذي تتلقاه من الذراع العسكرية
والقوة الضاربة لهذه المنظومة الاقتصادية/الاجتماعية/الثقافية شبه
المتجانسة والمتحلقة حول محور هذه المنظومة: الويات المتحدة، ونعني بذلك
حلف شمال الأطلسي (الناتو) .


فالولايات
المتحدة بهذا المعنى تتصرف على أساس أنها الدولة المعنية بقيادة العالم
والسهر على شؤونه وشجونه . ومن وحي شعورها بهذه المسؤولية التي تطوعت
ذاتياً لحمل أعبائها والنهوض بدورها كقائد “للأمة العالمية”، فإنها تفترض
في كل أعضاء الأسرة الدولية وتتوقع منهم، أن يسلموا لها بهذا الدور، وأن
يتعاونوا معها لتسهيل قيامها بأداء المهام الجسام الملقاة على عاتقها، وهي
تجد نفسها بالتالي مدعوة إلى فرض إرادتها واحترامها على الجميع . ومَنْ من
الحكومات، مَنْ يقرّر سلوك غير الطريق الذي رسمته واشنطن للجميع للسير
عليه، فعليه أن يتوقع أن يكون عرضة لإحدى أدوات زجرها . . ابتداء من تحريك
وتشغيل مجلس الأمن الدولي الذي تتمتع فيه بأغلبية ثلاثة إلى اثنين من أصوات
الأعضاء الدائمين (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة نفسها مقابل صوتي كل
من روسيا والصين)، إلى جانب أصوات معظم الدول الأعضاء غير الدائمين في
المجلس وعددهم عشر دول، إلى تحريك فريق الادعاء في محكمة الجزاء الدولية،
إلى فرض العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية المتدرجة، إلى تحريك مجلس حقوق
الإنسان التابع للأمم المتحدة، إلى وضع الدولة على قائمة الاستهداف
الإعلامي والدعائي المستمر الذي يشمل تعريضها لأضواء ساطعة في التقارير
السنوية التي تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية مثل التقرير الخاص بالحريات
الدينية، والتقرير الخاص بالاتجار بالبشر .


وقد
تكون هذه التقارير هي “أضعف الإيمان” في حزمة أدوات الضغط التي يتوافر
عليها ويستخدمها النظام السياسي الأمريكي في إطار ممارسته للدور القيادي
والريادي للولايات المتحدة في العالم، ولكن تأثيراتها ومفاعليها في حكومات
البلدان التي تتناولها لا يمكن الاستهانة بها أبداً .


فكثيراً
ما كانت هذه التقارير سبباً لإقبال الحكومات، محل تناولها، على شراء رضا
واشنطن بواسطة عقد صفقات سلاح معها تفضيلاً على عروض بيع منافسة . ومع أنها
لا تكاد توفر بلداً من حيث رصدها لانتهاكات حقوق الإنسان، بما فيها
البلدان الصديقة لها، إلا أن هذه التقارير تبقى مسيّسة بامتياز، وهذا هو
الغرض الأساسي الذي من أجله يتم إنتاجها وإشهار نتائجها بطريقة تشبه
الإعلان الدراماتيكي لسجل الناجحين والراسبين في نهاية العام الدراسي، بحيث
تتحسب حكومات الدول لورود أسماء بلدانها في النسخة السنوية من هذه
التقارير .


غير
أن تطوراً جديداً طرأ هذا العام على هذا النوع من ال “بيزنيس” السياسي
متمثلاً بمبدأ “كما تدين تدان”، قررت روسيا استخدام هذا السلاح الذي ظلت
تحتكره الولايات المتحدة وتشهره في وجه الآخرين لأهداف وغايات مختلفة،
بعضها أخلاقي من حيث كشفها وإدانتها لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها
حكومات مختلفة حول العالم، وبعضها الآخر ابتزازي نفعي بالدرجة الأولى،
وتغيير قواعد اللعبة، وذلك بعدم الاكتفاء بتلقي الدروس والمواعظ
والانتقادات الأمريكية عن أوضاع حقوق الإنسان في روسيا، وإنما بقيام وزارة
الخارجية الروسية في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي
بإصدار تقرير رسمي يرصد أوضاع حقوق الإنسان في الولايات المتحدة .


يقع
التقرير الذي صدر بعنوان “وضع حقوق الإنسان في الولايات المتحدة
الأمريكية”، في 56 صفحة، ويرصد تحت عناوين مختلفة (15 عنواناً) أبرز
الانتهاكات التي وقعت في الولايات المتحدة في عام 2012 لحقوق الإنسان، من
انتهاك للحريات والتمييز العنصري والعرقي والتعذيب والقتل العمد خارج
القانون خارج الأراضي الأمريكية، والمعاملة السيئة للسجناء، وتنفيذ عقوبة
الإعدام، إلى رفض الولايات المتحدة التصديق حتى الآن على المعاهدات الدولية
المتعلقة بحقوق الإنسان والمرأة والطفل والعمال المهاجرين، فضلاً عن عدم
انضمامها إلى 17 اتفاقية دولية حقوقية، إلى تزايد حالات الاعتداءات
العنصرية للشرطة الأمريكية ضد الأقليات والمهاجرين واستغلال العمال
المهاجرين خارج القانون .


وعلى
صعيد “الحقوق الاجتماعية والاقتصادية”، يشير تقرير الخارجية الروسية إلى
أن40% من الأمريكيين لا يتمتعون بالضمان الصحي، وأن 46% من الأمريكيين لا
يملكون منزلاً، وأن واحداً من كل خمسة أمريكيين لا تصل المياه ولا الكهرباء
إلى منازلهم، وأن نظام العمل الأمريكي هو من بين الأضعف في العالم لناحية
حماية حقوق العمال الذين وصلت البطالة في صفوفهم إلى 8 .12 مليون عاطل .


أما
على صعيد الحريات، فإن التقرير يلفت إلى تراجع الولايات المتحدة في قائمة
منظمة “مراسلون بلا حدود” 27 مرتبة في عام ،2012 وأن 80 صحافياً تعرضوا
لاعتداءات الشرطة خلال تغطيتهم احتجاجات “احتلوا وول ستريت”، واتساع ظاهرة
طرد الإعلاميين من وظائفهم بسبب آرائهم السياسية وانتقاداتهم للإدارة
الأمريكية، ويقدم التقرير بعض الأمثلة على ذلك .


يقول
قسطنطين دولغوف مفوض حقوق الإنسان في وزارة الخارجية الروسية الذي عرض
التقرير على البرلمان الروسي أواخر شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إن
التقرير يستند إلى وقائع ودراسات وبيانات من مصادر أمريكية موثوقة ومن
منظمات غير حكومية ومن دراسات للأمم المتحدة، وأنه، أي التقرير، ليس نسخة
نظيرة للتقرير السنوي الذي تصدره وزارة الخارجية الأمريكية، وإنما هو
مساهمة في توسيع النقاش ودعوة الأمريكيين إلى التنبه لمشكلاتهم العديدة
والتعامل معها قبل وعظ الآخرين، فهم ينتقدون ويحاكمون الجميع باستثناء
أنفسهم . فإذا أرادوا أن يحتكروا دور القائد أو المعلم أو المرشد في مجال
حقوق الإنسان – ونأمل ألا يفعلوا ذلك – يجب أن يعلموا أنه يجري رصدهم أيضاً
.


هو،
إذاً، أسلوب جديد لمقاربة روسية مبتكرة لكيفية إدارة العلاقات الدولية
لروسيا الاتحادية، وبضمنها، وخصوصاً منها، علاقات روسيا بالولايات المتحدة .
وهو أسلوب يعتمد، كما نرى، على مقابلة الحجة بالحجة انطلاقاً من المثل
الشائع “إن كان بيتك من زجاج فلا تقذف بيوت الآخرين بالحجارة” .