المنشور

على التخوم الأمريكية الفرنسية



يبدو
أمراً لافتاً أن إدوارد سعيد الفلسطيني، أو فلنقل العربي، هو أول من نقل
للثقافة الأمريكية التراث النقدي للمدارس الفلسفية والفكرية الفرنسية
المعاصرة . صحيح أن إدوارد سعيد حين تحدث عن ذلك قال عن نفسه: “كنت
الأمريكي الأول الذي تناول مدرسة النقاد الفرنسيين الجديدة في كتبه”، أي
أنه تحدث عن نفسه بصفته أمريكياً، لكن الرجل الذي عدّ نفسه دائماً خارج
المكان، ما كان سيفعل ذلك، على الأغلب، لو أنه كان أمريكياً محضاً، فلقد
أبدى اهتماماً مبكراً باللغة والأدب الفرنسيين منذ أن كان تلميذاً في كلية
فيكتوريا بالقاهرة، قبل انتقاله إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمواصلة
دراسته، ثم للعيش والعمل فيها حتى مماته .


بالنسبة
للفتى الفلسطيني إدوارد سعيد المقيم في القاهرة تلميذاً شكلتْ فرنسا
الخيار البديل، حيث كان له كثير من الأصدقاء الناطقين بالفرنسية، لا في
الكلية وحدها وإنما في نوادي القاهرة أيضاً، حيث كان يتمرن على لعب التنس .
وكان اتصاله الأول بالأدب الفرنسي في سن المراهقة، عبر نص الجدار لسارتر،
حيث تأثر كثيراً بآفاق هذا الكتاب الفلسفية والفكرية، وأدهشته التعددية
التي ينطوي عليها، لاسيما بالمقارنة مع الأدب الأمريكي . “في الفترة عينها،
كنا نقرأ جون شتاينبك، يقول سعيد، إلا أن أسلوب سارتر ونظرته إلى العالم
مختلفان تماماً، وقد سحرني هذا الاختلاف” .


المقال المطول الأول الذي، من خلاله، عرف إدوارد سعيد الأمريكيين بالنقد الفرنسي الحديث كان  عن
لوسيان غولدمان، حيث اهتم بفكرة أن غولدمان كان تلميذ جورج لوكاتش في
الثلاثينات، وأنه كان ينتمي في تلك الفترة إلى أنصار “النقد الجديد”، وهي
مجموعة تختلف عن النقد الأمريكي كلياً . كانت مخالفة تماماً للفلسفة، وتشدد
على أولوية الجمالية . وفي موازاة ذلك، لم يتوقف سعيد عن قراءة سارتر
وسواه من ألمع المفكرين والنقاد والفلاسفة الفرنسيين الذين لعبوا، من وجهة
نظره، دور الوسطاء بين الفلسفة الألمانية والتقليد الأنغلوأمريكي في بعض
مجالات النقد والمعرفة .


سيغدو
إدوارد سعيد نفسه وسيطاً بين ثقافتين، وهو النموذج الحي للمثاقفة في
معناها الثري العميق، فرغم أنه لم يتقن العربية إلا متأخراً، فإنه ليس
بالوسع تصوره خارج تأثره العميق بالثقافة العربية، وكان وقوفه عند تخوم
لغتين وسياقين حضاريين مختلفين: أنغلو سكسوني وفرانكفوني مكّنه من أن يكون
جسراً للتفاعل الخلاق بينهما على النحو الذي شرحه هو .