المنشور

التاريخ لا يغفر



من
كانوا فتية وشباناً مأخوذين بالحلم الثوري في السبعينات الماضية وما تلاها
في العالم العربي، يتذكرون جيداً هذا الاسم الجميل: فيكتور هارا، المغني
الشعبي التشيلي الذي اغتاله جلادو الطاغية بينوشيه، غداة الانقلاب الدموي
الذي دبرتهُ المخابرات المركزية الأمريكية وتلوثت بدمه أيادي وزير الخارجية
الأمريكي يومذاك هنري كيسنجر .


حين
استولى بينوشيه على الحكم فتح استاد سنتياغو الرياضي الكبير للمعتقلين من
مؤيدي الرئيس الشرعي المنتخب سلفادور الليندي، لأن زنازين السجون لم تكن
تكفي لاستيعاب مئات الآلاف من المعتقلين، وإلى الاستاد المذكور أحضر،
أيضاً، هارا .


أحد
شهود العيان الذي فر من المذبحة روى أن أحد الضباط أمر بإحضار الغيتار
وقدمه للشاب فيكتور هارا، طالباً منه العزف، إلا أن الشاب هارا رفض قائلاً
إن موسيقاه للحياة لا للموت، فما كان من الضابط إلا أن قطع أصابع هارا
العشر، قائلاً له إن بوسعه الآن أن يعزف موسيقا الموت، ثم أجهز على حياته
بالرصاص .


منذ
سنوات شيعت تشيلي في مراسم حضرها الآلاف جنازة تأجل موعدها ستة وثلاثين
عاماً للمغني الشعبي الشهير، وكانت جثته استخرجت في يونيو/حزيران الماضي
لتحديد ملابسات قتله بدقة، حيث تأكد بعد فحص الرفات أن أصابعه قطعت فعلاً . 


من
المفارقات الموجعة أنه قتل في الاستاد الرياضي الذي كان يضج بالحشود
الهائلة التي تصفق له وتغني معه حين فاز في مسابقة الأغنية الوطنية
التشيلية الجديدة في مطالع شبابه، وبعد سقوط الديكتاتورية، وعودة
الديمقراطية إلى تشيلي، أطلق اسمه على هذا الاستاد بالذات تخليداً لذكراه
ليكون في ذلك عظة للمستقبل .


كان عالم الفلك الروسي نيكولاي شبرنغ قد مجّد ذكراه بإطلاق اسمه على كوكب اكتشفه بعد أسبوع من اغتياله .


أرملته
روسا التي حضرت الجنازة قالت بتأثر متمالكة نفسها وحابسة في مقلتيها
الدموع، وفي قبضتها اليمنى قرنفلة حمراء: “كان هناك فيكتور هارا واحد فقط
واختطفوه منا، نحن هنا رداً على ما انتزعوه منا” .


مناسبة العودة إلى ذكرى فيكتور هارا، اليوم، سببها أن النائب العام في تشيلي أحال إلى التحقيق، منذ أيام قليلة،  ثلاثة من الجنرالات، لتورطهم في قتل المغني الشاب الذي أبهج التشيليين بأغانيه، وأدمت ذكرى قتله البشع قلوبهم . 


العار
يلاحق الطغاة أحياءً كانوا أم أمواتاً، أما المبدعون الذين نالهم العسف
فيتحولون إلى ضمائر تؤرق كل الطغاة، فالتاريخ لا ينسى ولا يغفر .