المنشور

المـــــآلات.. لا المــــــــناســبات..!


نستميح المعنيين عذراً في لفت انتباهم وعنايتهم الكريمة الى مناسبة دولية تطل علينا في الايام المقبلة نحسب انه من المهم التوقف عندها، ولو من باب اضعف الايمان، اي الوقفة الرمزية والكلام التمويهي الدال على اننا نشارك العالم في مناسبة دولية.. خاصة اننا عهدنا المعنيين مولعون بالاحتفاء كيفما يشاؤن بمثل هذه المناسبات، ومادامت المسألة «ملحوقة» فلا بأس بتذكيرهم بالمناسبة التي نعنيها.
 
المناسبة هي مناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد الذي يصادف التاسع من ديسمبر من كل عام، والاحتفال بهذا اليوم في اي دولة يكتسب بعداً ودلالات اقلها زيادة الوعي وشحذ الهمم وتوحيد الكلمة ضد الفساد، وقد تكون مناسبة ايضا لطرح وتداول الافكار والبرامج والمشاريع التي من شأنها جعل محاربة الفساد والتصدي لكل اوجه استغلال الوظيفة او التفريط في صون المال العام امراً ملحاً وضرورياً وموجباً وفي صدارة الاولويات.
 
الامم المتحدة عندما اقرت تخصيص يوم عالمي لمحاربة الفساد والمفسدين فذلك لانهما يعرقلان التنمية ويخلقان المشكلات الاجتماعية ويؤزمانها ويهددان بيئة الاعمال والاستثمار، وثمة شواهد بان الفساد كان المحرك الرئيسي لثورات واحتجاجات في دول عربية وغير عربية، وهو امر جدير بالتأمل بقدر ما هو جدير بالالتفات الى ان الفساد الذي هو في تعريف منظمة الشفافية الدولية: كل فعل ينطوي على سوء استغلال الوظيفة العامة لخدمة مصالح خاصة، ووفقا لبيانات هذه المنظمة ومعها الامم المتحدة، وصندوق النقد الدولي فان حجم الاموال العامة التي تتعرض للنهب والاختلاس بسبب فساد الانظمة السياسية في العالم تقدر بحوالي 1.6 تريليون دولار سنويا كما ان الفساد يكلف الدول النامية 40 مليار دولار سنويا، ويبتلع نحو 25% من الناتج المحلي في افريقيا، ويرفع كلفة الاستثمار بين 20-30% على اقل تقدير.. هذه الارقام في ابسط تحليل تدل الى اي مدى يمكن للفساد ان يضرب الحقوق ويشل البلدان في كل الحقول وعلى كل المستويات والصعد.
 
نحن هنا لا نذّكر بهذه المناسبة او نلفت الانتباه اليها لمجرد الدعوة الى الاحتفاء بها او لنثبت للعالم اننا نشاركهم الاحتفالية، ولكننا نفعل ذلك على امل ان يكون اليوم العالمي لمحاربة الفساد مقدمة تمهد للتفكير ومن ثم التوجه في اتخاذ اجراءات ملحة وضرورية وموجبة تناهض الفساد وتضيّق الخناق على الفاسدين وتزيل هذه المساحة غير القليلة التي تعطي وهما بالانجاز فيما يخص قيمة لن نكف عن الالحاح عليها، وهي قيمة المساءلة والمحاسبة في ساحة الاداء العام، والتي من المؤسف ان نجد عبثاً بات واضحاً بمفرداتها وعناوينها ومقوماتها، ويكفي التمعن في التجاوزات التي يكشف عنها ديوان الرقابة المالية والادارية في تقاريره واصداء هذه التقارير تارة، وتعاطي النواب الرديئ مع كل تقرير تارة اخرى لنتيقن من ذلك، وامامنا حيال الاصداء والتعاطي على حد سواء شواهد كثيرة على مر سنوات تسع مضت لم تسقط من الذاكرة، ويمكن ان نضم الى القائمة موقف النواب الغريب الرافض لانشاء هيئة وطنية مستقلة لمكافحة الفساد التي يعلمون انها من بين مقتضيات الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي صادقت عليها البحرين وهو امر باعث على الحيرة اذ كيف للنواب ان يتصدوا للفساد وهم الذين رفضوا انشاء هذه الهيئة. ليس ذلك هو الموقف الوحيد الذي يحسب عليهم، فهناك موقفهم الذي في ادنى توصيف نقول بانه غير واضح وملتبس ازاء وجود منظومة كاملة من مكافحة الفساد وخاصة مشاريع القوانين او الاجراءات التي تمنع تعارض المصالح، وتضمن حماية المبلغين عن الفساد وحق الاطلاع على المعلومات وتقوية نظم الرقابة الداخلية، ونشر ثقافة مكافحة الفساد، وتعزيز قيم النزاهة والشفافية والمساءلة والعدالة والتنافسية والتي هي بمجملها من مقتضيات تلك الاتفاقية الدولية، ويضاف الى ذلك الموقف الغريب من وزارة التنمية الاجتماعية الرافض لتأسيس جمعية «نزاهة».. وكل ذلك غيض من فيض.
 
لا نريد ان نستعذب البقاء عند نقطة الصفر عاما تلو عام، وان نراوح في مكاننا لا نشهد على ارض الواقع ما يثبت اننا جادون فعلا وبصدق وحزم على طريق محاربة الفساد ومعالجة ما تنطق بسوء الاداء والادارة، وها نحن اليوم امام امتحان جديد هو في حده الادنى يتمثل في كيفية التعاطي مع افرازات التقرير الاخير لديوان الرقابة.. وفي تفعيل قانون الذمة المالية الى المدى المطلوب واللازم بعد صدور لائحته التنفيذية قبل ايام.. تفعيله بمستوى يطمئن الناس بان ثمة خطوة جادة بدأت..!
 
نعلم بان هناك من لا يستسيغ تداول كلمة الفساد، ونعلم ان هناك من لا يريد الاعتراف اصلا بوجود مشكلة فساد، رغم ان الاعتراف بوجود المشكلة هو بداية الحل، ونعلم ان هناك اخبارا كثيرة مما صرنا نطالعه في صحفنا المحلية تنتمي الى ما يفرض سل سيف المساءلة والحساب على وجه السرعة، كما نعلم ان القضاء النزيه والمستقل ووجود مؤسسات المجتمع المدني الحرة والقوية والبرلمان الفاعل الممارس لدوره كما يجب في الرقابة والمساءلة والنواب الذين يقنعون الناس بانهم يقفون حقا وبجد ضد الفساد، والصحافة الحرة التي تنشر الحقائق، والقوانين النافذة التي تجرم السلوكيات الفاسدة وتضمن حسن ادارة الشأن العام، وقطاع خاص متعاون في الحد من الفساد وممتنع عن افساد الموظفين العمومين ويّبلغ عمن يطلب الدفع من فوق او تحت الطاولة، كل ذلك من اهم الاسس التي يقوم عليها اي جهد جاد في محاربة الفساد في اي بلد، ونعلم بان الحاجة عندنا باتت ملحة اكثر من اي وقت مضى الى خارطة طريق ضمن رؤية استراتيجية وطنية كاملة ومتكاملة لمكافحة الفساد في اطار تشاركي من كل اطياف وقوى المجتمع ومؤسساته المدنية الحية.. المهم قبل ذلك ان تكون هناك ارادة وان نكون اولاً واخيراً جادين بالدرجة التي تجعلنا نستعيض عن «الشكليات» بالمضمون وبالقول عن الفعل، فهل تكون مناسبة اليوم العالمي لمحاربة الفساد مناسبة ننعش فيها آمال الناس بشيء من هذه الجدية المنتظرة. 


 



حرر في 6 ديسمبر 2013