المنشور

المواجهة الكبرى: القوى المدنية والقوى الدينية



لقد
كانت مساهمة قيِّمة تلك التي أسهم بها ابن مدينة حلب الشهباء وأحد رواد
الحركة الإصلاحية العربية ورجل الدين المعتدل عبدالرحمن الكواكبي
(1849-1905) في تأصيل فكرة أن الاستبداد هو بيت الداء في الأزمة التاريخية
التطورية للإدارة المجتمعية الكلية في العالم العربي، الممتدة منذ العصور
الأولى لقيام بنيان الدولة العربية المعاصرة، والتي أنجزها ودبجها في مؤلفه
الشهير “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” الذي شخَّص فيه داء الاستبداد
السياسي ووصف فيه أقبح أنواعه: استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على
العقل، وإن الاستبداد هو أصل لكل فساد .


وقد
حاول معاصره في مصر الإمام محمد عبده (1849-1905) أن ينسج على منواله
والسير على خطاه، وتخصيصاً في ما يتعلق بتجديد الفقه الإسلامي، والدعوة إلى
الإصلاح وتحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه لقرون طويلة، وإيقاظ
وعي الأمة وتحفيزه إلى التحرر من محابسه الانغلاقية، وإطلاقه نحو آفاق أرحب
تستطيع مواكبة التطورات السريعة في العالم وحركة المجتمعات على مختلف
الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية .


لقد
مضى قرن ونيف من الزمان منذ أن ضبط الكواكبي بوصلة انشغاله الفكري على
الاستبداد باعتباره بيت الداء في أزمة التنمية العربية وترويج رؤيته
الثاقبة هذه، المُشخِّصة للمأزق العربي المستعصي والحابس للتطور الطبيعي
للمجتمعات العربية، ومازال المشكل هو المشكل، رغم التضحيات الجسام التي
دفعتها المجتمعات العربية وطلائع “أنتلجنسيتها” على مذبح التحرر من أغلال
وقيود هذا الكابح المضاد للتطور، ورغم استمرار الشعوب العربية وقواها
الاجتماعية الحية في الكفاح لكسر أغلاله، رغم كل ذلك، فإن الاستبداد مازال،
هو الآخر، يقاتل بشراسة من أجل الثبات والبقاء، متحصنا ومتسانداً بتوأمه
الفساد .


وللحظة
بدا أن فجراً جديداً قد بزغ في سماء المجتمعات العربية مع أول هبة شعبية
شبابية خالصة وصافية فجّر ينابيعها شاب تونسي من إحدى أكثر النواحي
التونسية دفعاً لضريبة الزيجة غير الشرعية بين الاستبداد والفساد . . وهو
الشاب محمد البوعزيزي، حيث كانت عملية إشعال النار في جسده أمام مقر محافظة
سيدي بوزيد الشديدة الرمزية في تعبيراتها ودلالاتها الاحتجاجية الصارخة،
كافية لإطلاق مارد الغليان والغضب الشعبي المكبوت لعشرات السنين .


ولكن
شتان ما بين الثرى والثريا . . فما إن تم التهليل لتلك “البشارة” فرحاً
وابتهاجاً واستبشاراً على طريقة الشاعر البحتري، أبوعبادة الوليد بن عبيد
الطائي (820-897م) المولود في بلدة منبج الواقعة إلى الشمال الشرقي من
مدينة حلب السورية، والذي كان من أهم ثلاثة شعراء عصرهم – العصر العباسي –
وهم المتنبي وأبوتمام والبحتري نفسه، حين خطّ قصيدته التي تعدّ إلى اليوم
من روائع ما قيل في وصف الربيع:


أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا    من الحسن حتى كاد أن يتكلما


 .
. وما هي إلا حفنة أيام حتى تكشف للخاصة قبل العامة أي نوع من الربيع –
الذي أسموه ربيعاً عربياً تيمناً بربيع براغ لعام 1968 – ذاك الذي يراد لهم
الترحيب بمقدمه . هو ربيع بدلالته الزمانية ولكنه ليس ربيعاً عربياً .
يمكن أن تكون نتائجه وإفرازاته على الأرض ربيعاً فوضويا “خلاقاً”، أو
ربيعاً إسلامياَ، ان شئتم، وذلك برسم ما انتهى اليه الفوران في البقاع التي
نشب فيها من وصول متزامن وغريب للإسلاميين وتحديداً حركة الإخوان المسلمين
إلى السلطة (المغرب، تونس، مصر، ليبيا)، والحبل على الجرار!


وللحظة
أيضاً . . هي في مقام ضربة الحظ أو ما يسمى في الفلسفة ب”الصدفة
التاريخية”، تراءى لجماعة الإخوان، خصوصاً في مصر وتونس، أن الأمر قد استتب
لهم محلياً، وإقليمياً ودولياً . . وأن لا شيء، بعد أن أصبح الحكم في
قبضتهم، يمكن أن يحول دون شروعهم في إنفاذ أجندتهم التي لطالما تجنبوا
الإفصاح عنها، ولطالما حلموا باليوم الذي يستطيعون فيه التخلص من عبء
“استبطانها” الذي اضطُروا إلى اللجوء اليه للمحافظة على نفوذهم وسمعتهم بين
العامة التي تشكل قاعدتهم الأساسية المنتشرة خصوصاً في الأطراف، وفي أحزمة
البؤس التي تلف المدن والبلدات في البقاع الحضرية . ولعل تصريحات راشد
الغنوشي الذي يعد المرشد العام لحركة الإخوان المسلمين في تونس وجناحها
السياسي حزب النهضة الحاكم حالياً، وكذا تصريحات قيادات الإخوان المسلمين
في مصر، تحمل ما يكفي من المعطيات والدلائل التي تدفع إلى الاعتقاد بأن
“الجماعة” قررت تحويل “نوايا” أجنداتها المتمحورة على إشادة الدولة
الدينية، إلى حقائق راسخة على الأرض وبسرعة أفزعت كل من حولها من مكونات
وكيانات الدولة المدنية .


والحال،
إن إخوان مصر وتونس أخطأوا التقدير . . تقدير قوة الدولة المدنية والمجتمع
المدني والثقافة المدنية (الحداثية) . . باعتقادهم أنها لا تزيد على حفنة
أحزاب ومكونات نبرة أصواتها العالية لا تتناسب مع عديدها وعدتها . . وفات
عليهم أن الدولة المدنية إنما هي تلك الملايين التي تعمل بفضل وجود هذه
الدولة وأنماط الحياة الحداثية التي اعتادوا الحراك في فضاءاتها الرحبة
والتنعم بفضائل إنجازات إنسانها المعاصر . ربما اعتقد الإخوان في مصر وتونس
ومن ورائهم روابطهم الأممية، أن أسس الدولة المدنية في كل من مصر وتونس
هشة يسهل تهشيمها وابتلاعها ومن ثم إقامة دولتهم الدينية على أنقاضها .
وهذه نظرة أُحادية لا تستوعب معطيات المسألة برمتها، وإلا لكان حزب العدالة
والتنمية (إخوان مسلمون) الحاكم في تركيا أسبق إلى تطبيق هذا الخيار غير
العقلاني . ففي عالم القرن الحادي والعشرين المتعولم إلى حدّ سقوط السيادات
القومية والخصوصيات المجتمعية، رغم انفجار الهويات كردة فعل على اتجاهاته
العولمية، فإن خياراً كهذا ليس له حظوظ وفيرة للنجاح، اللهم إلا في تأخير
وتحطيم الطاقات والموارد وإهدار الوقت التنموي .