المنشور

مغبة التعاند السياسي



أعاد
خطاب الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي أمام مناصريه الذين تحلقوا حوله في
قصر الاتحادية لتأييد ما أقدم عليه من إصدار إعلان دستوري، إدخال البلاد في
متاهة جديدة، والخطابات والإجراءات الأحادية التي تلته،  جاءت
كلها مفعمة بروح التحدي الذي لم يخلُ من تهديدات بعضها سافر وبعضها الآخر
مبطن لقوى المعارضة المصرية للسياسات التي تتبعها جماعة الإخوان المسلمين
من خلال حزبها الحاكم حزب العدالة والتنمية .


وقد
صبّت في ذات الاتجاه التصريحات المماثلة، ولكن الأكثر نارية التي أدلى بها
بعض قيادات الإخوان التي حملت تصميماً واضحاً من قبل الإخوان المسلمين على
مواصلة نهجهم “بتعبيد الطريق” إلى حكم مصر بصورة لا يشركهم فيها أحد .


فمع
تصاعد واتساع نطاق وزخم ردود فعل المعارضة على قرارات وخطابات الرئيس،
ومنها الخطاب الذي دعا فيه المعارضة إلى الحوار في الإجراءات الانفرادية
التي اتخذها وتسببت في اندلاع الأزمة، الذي أكد فيه في الوقت ذاته، تصميمه
على عدم التراجع عن تلك الإجراءات ومنها السير في عملية طرح مسودة الدستور
التي أعدت على عجل للاستفتاء الشعبي، دون أن يغفل تضمينه عبارات التهديد
لقوى المعارضة والحركات المطالبة بالتغيير واتهامه إياها بالسعي إلى
الانقلاب على الشرعية، مع تصاعد ردود فعل المعارضة المنددة بهذا النهج، فقد
لوحظ، كردة فعل مقابلة، حدوث ما يشبه الاستنفار غير المسبوق في صفوف
قيادات الإخوان المسلمين، حيث خرج إلى دائرة الضوء المرشد العام محمد بديع
الذي وجه نعوتاً نابية للمعارضة متهماً إياها ب “الفساد والاستبداد
والإجرام” . ونسج على منواله نائب المرشد خيرت الشاطر ونائب رئيس حزب
العدالة والتنمية عصام العريان اللذان شدّدا على أن الجماعة لن تسمح بسرقة
الثورة “ويقصدان السلطة” منها، وأنها ستدافع عن مواقعها التي حصلت عليها
بصورة شرعية، ويقصدان عبر صندوق الاقتراع .


وبنكوثه
بتعهداته للناخب المصري قبل الاحتكام إلى صندوق الاقتراع وما بعد فرز
أوراق مقترعيه، فإن حزب العدالة والتنمية في مصر إنما يعيد إلى الأذهان ما
كان أعلنه حزب جبهة الإنقاذ “إخوان مسلمين أيضاً” في الجزائز برئاسة عباسي
مدني بعدما بدا أن الحزب يتجه إلى إحراز الفوز في الانتخابات البرلمانية
الجزائرية التي أجريت في 26 ديسمبر/كانون الأول ،1991 من أن هذه الانتخابات
التي ظفرت فيها جبهة الإنقاذ بالسلطة التشريعية، هي نهاية المطاف
للديمقراطية التعددية في الجزائر، وهو ما حدا بمؤسسة الجيش الجزائري إلى
التدخل وإلغاء نتيجة الانتخابات وبدء الإدارة العسكرية للبلاد . إنه
التعاند السياسي بعينه، وهو حين يعاند القوم بعضهم بعضاً “من عَنِدَ بفتح
العين وكسر النون وفتح الدال، أو عَنُدَ بفتح العين وضم النون وفتح الدال .
. عند عنوداً، أي أن الرجل خالف الحق وهو عارف به فهو عنيد، كما جاء في
“المنجد في اللغة والإعلام”” .


إن
السياسة المعاصرة التي تتسم باتساع قاعدة الأطراف المشاركة في رسمها بطرق
مباشرة وغير مباشرة، وفي التأثير بمدخلاتها ومخرجاتها واتجاهاتها العامة،
لا مكان فيها لشيء اسمه العناد أو التعاند السياسي .


والعند
السياسي هو أحد أسوأ المقاربات المعتمدة في العلاقات الإنسانية في عالمنا
العربي، عطفاً على خصوصية الشخصية العربية التي مازالت تنوء بأعباء آلاف
السنين من المواريث شديدة المحافظة، والانشداد إلى العصبيات الأولى التي
غدت جزءاً من أنساق القيم والمناقبيات حتى صارت تزاحم القواعد والنظم
التشريعية الناظمة للشرعية وللعلاقات المجتمعية . وقد يقود الاستغراق في
التعاند إلى طور عاطفي أكثر مهلكة، وهو الحمق الجالب للبلاء، فما بالك إذا
ما اقترن هذا البلاء بالسياسة وتسربل في ثناياها وفحواها، حينئذٍ قل على
الاستقرار السلام .


والأكيد
أن زمرة العقلاء والحكماء في عصور التطور العربية المتواترة، قد أدركوا
حقيقة تعقيدات خريطة التكوين السوسيولوجي للشخصية وللمجتمعات العربية
وخصوصياتها، فحاولوا الدفع بما يخفف من غلواء وتأثيرات ذلك العبء الثقافي
الثقيل المشدود إلى الماضي التليد، من خلال أدوات التعبير المختلفة وفي
مقدمها الشعر الذي يتمتع بمكانة وحظوة خاصتين لدى الذائقة السمعية العربية .
ففي مقام كالذي نحن بصدده، على سبيل المثال، ساقوا الحكمة العبقرية
البليغة “لا تكن لينا فتعصر ولا تكن يابساً فتكسر” .


بهذا
المعنى، لا يملك المرء إزاء ارتفاع شرر المجابهة التي تلوح بين القوى
المدنية والقوى الدينية في مصر، إلا أن يتمنى من أطراف الانقسام الناشب
هناك هذه الأيام، لا سيما ممن يمسكون بتلابيت الحكم، أن يهجروا التعاند
السياسي ويعودوا إلى التسلّح بتلك الحكمة العظيمة .