المنشور

لماذا خرجوا؟ (2) – د. بدر الديحاني

ذكرنا في المقال السابق (
لماذا خرجوا؟ 
 أن المهم الآن هو البحث عن الأسباب الرئيسة التي
جعلت مواطنين من مشارب سياسية واجتماعية متنوعة يخرجون بأعداد غفيرة إلى
الشوارع والساحات العامة معبرين عن غضبهم مع ضرورة الابتعاد عن المبالغة في
تضخيم أمور هامشية لا قيمة لها مقارنة بالمجرى العام للأحداث وأسبابها
ونتائجها الحالية والمستقبلية.


التركيز على الأمور الهامشية التي تحدث عادة أثناء المظاهرات الضخمة لا يحل
المشاكل العامة، بل يفاقمها ويزيد تعقيدها ويصعّب حلها مستقبلاً، فهناك
غضب شعبي لا ينكره إلا غير المنصف أو المنفصل عن الواقع، عبرت عنه جموع
بشرية هائلة أثناء المسيرات الشعبية الضخمة رغم الطابع العفوي والتلقائي
لمسيرات المناطق؛ لأنه لا يوجد لدينا إرث أو “ثقافة” الاحتجاجات
والمظاهرات، كما أن الوعي السياسي العام لا يزال في طور النمو البطيء نتيجة
لغياب العمل السياسي المؤسسي والمنظم، وهو الأمر الذي قد ينتج عنه أحياناً
بعض التصرفات الفردية التلقائية المعزولة والمرفوضة التي من الممكن حصولها
في أي مظاهرة في العالم لكنها لا تشكل أي قيمة ولا تبرز إعلامياً مثلما هو
الوضع لدينا، حيث يستغلها بعض العنصريين والطائفيين والمنافقين وبعض الصحف
والفضائيات الخاصة التي لا تهتم إلا بمصالحها المادية، فيركزون عليها
ويبرزونها لكي تطغى على الحدث الرئيسي الذي لا يريدون أن يراه الناس إلى
درجة أن بعض كتّاب الصحف يشبّه المسيرات الشعبية، وبالذات مسيرات المناطق،
بأعمال الشغب التي حصلت في لندن قبل سنوات… فهل هي فعلاً كذلك؟


كلا بالطبع، فمسيرات المناطق التي لا نتفق مع توقيتها ومكانها ونتمنى
توقفها، هي عبارة عن شكل من أشكال الاحتجاج السياسي السلمي الذي يطرح مطالب
سياسية محددة (شعارها هو “كرامة وطن”، ومطالبها الحالية احترام الدستور
وإسقاط مجلس الصوت الواحد)، والتصرفات الفردية التلقائية تبقى فردية
ومرفوضة.


وقد لاحظ الجميع أنها تترافق دائماً مع استخدام العنف المفرط من قبل القوات
الخاصة، وانتهاك حرمات المنازل، أي أنها تكون نتيجة من نتائج القمع وليست
سبباً له، فجميع المسيرات سواء “كرامة وطن” أو مسيرات المناطق المختلفة
التي لا تتدخل فيها القوات الخاصة تسير بهدوء، وسرعان ما ينفض المتظاهرون
بعد أن يقولوا ما لديهم، وعادة لا تمتدحها الصحف والفضائيات غير المهنية
لأنها لا تجد بضاعتها فيها كما حصل أكثر من مرة في محافظة الجهراء وغيرها
وفي “كرامة وطن 3 و4″.


أما أعمال الشغب فتمثل تعديات صارخة في خروجها على القانون، من ضمنها
مهاجمة قوى الأمن والتشابك معها وتعطيل المرافق العامة وتحطيم المحال
التجارية، وعمليات النهب المنظم والسرقة الواسعة، وإضرام الحرائق في الطرق
العامة، وهو ما لم يحصل قط في المسيرات الشعبية (التظاهرات) لدينا رغم
استخدام القوات الخاصة أحياناً للعنف المفرط.


نشير أخيراً إلى أن رفض مرسوم الصوت الواحد ومجلسه هو رفض سياسي وشعبي واسع
ومتنوع لا يمكن أن يشوّهه ما يقوله بعض كتّاب الصحف العنصريين والطائفيين،
خصوصاً أولئك الذين ظلوا لسنوات طويلة مضت يتبجحون أنهم يدافعون عن
الدستور والديمقراطية والحريات، أو ما تركز عليه بعض الصحف والفضائيات التي
فقدت مصداقيتها ومهنيتها؛ لأن لأصحابها مصلحة مباشرة في بقاء الوضع السيئ
الحالي، إذ إن العمل الوحيد لهؤلاء في هذا المنعطف السياسي الحرج هو خلط
الأوراق وتزييف الحقائق والتدليس على الناس، تارة بادعاء أن الصراع السياسي
الحالي مرتبط بأجندات خارجية (“الإخوان المسلمين” وبعض الدول الخليجية
المجاورة)، وتارة أخرى بتصويره زوراً وبهتاناً بأنه صراع فئوي (بدو وحضر)
رغم عدم وجود أساس موضوعي أو دستوري لهذه المصطلحات التي عفا عليها الزمن
وتجاوزها الواقع منذ عقود طويلة.

د. بدر الديحاني

منقول عن جريدة الجريدة تاريخ 13122012.