المنشور

مكتشفو أمريكا الجُدد



حين كانت القوات الأمريكية تتقدم نحو بغداد لتحكم الخناق عليها، قبل سنوات
من الآن، كانت شوارع العواصم والمدن في العالم كله تكتظ بالمحتجين على ذلك الغزو
من المناضلين الأممين من القوى اليسارية والديمقراطية وحماة البيئة ومحبي السلم
والحرية في العالم والرافضين لمنطق القوة والغطرسة ، كما شهدت عواصم ومدن العالم
العربي نفسه، ومن ضمنه وطننا البحرين مظاهرات احتجاجية مشابهة، يومها تعالت أصوات
البعض ضد هذه المسيرات معتبرة إياها إنتصاراً لديكتاتورية صدام، ولم يروا فيها ما
هو أبعد وأعمق، من أن هذا الغزو كان يرسي قواعد الشرق الأوسط الجديد المفتت طائفيا
ومذهبياً، ويجعل منابع النفط تحت الهيمنة العسكرية الأمريكية المباشرة. 


 ونفس هذه الأصوات استهجنت خروجنا
في مسيرة احتجاجية بالقرب من السفارة الأمريكية في البحرين منذ سنوات احتجاجا على
زيارة الرئيس الأمريكي يومها جورج بوش الإبن للبحرين، لإيضاح موقف الشعب البحريني
من السياسة الأمريكية في المنطقة، وموقفها الداعم للعدوان الصهيوني على الشعب
الفلسطيني وبقية الشعوب العربية. 


أصحاب هذه الأصوات يبدون كمن يعيد اكتشاف أمريكا اليوم، بعد أن اتضحت معالم
التفتيت المذهبي لمنطقتنا، ووصلت نذره إلى عقر الدار، فصاروا يريدون تعليمنا ما هي
الامبريالية ويلقون على الناس دروساً ومحاضرات في السياسة العدوانية للولايات
المتحدة، هم الذين بشرونا بأن الحداثة والديمقراطية آتية على الدبابات الأمريكية،
التي ستقتلع الأصولية الإسلامية من جذروها، فإذا بهذه الأصولية تنتعش ويستشري
نفوذها بمباركة أمريكا وحمايتها و”تشبيكاتها” هنا وهناك، من أجل تمكينها
في مصر وتونس وغزة وفي الخليج العربي، وفي بقاعٍ عربية أخرى. 


لم يأت الوطنيون والتقدميون بباطل في مطالبتهم بالمزيد من الإصلاحات
والحقوق السياسية والدستورية، كسبيل لدرء الأوطان من التدخلات الخارجية، ومن
تدخلات الولايات المتحدة وغيرها تحديداً التي يعرفونها حق المعرفة، ووقفوا ضدها
بالأمس ويقفون ضدها اليوم أيضاً وسيفعلون ذلك في المستقبل اتساقاً مع مبادئهم
وتربيتهم السياسية والفكرية المعادية بطبيعتها للامبريالية والمنتصرة لمبادئ
السيادة والاستقلال الوطني. 


لقد كان هؤلاء الوطنيون والتقدميون في الموقع نفسه، وسيظلون، موقع المطالبة
بالمزيد من الحقوق الديمقراطية وصون الحريات العامة، وفي موقع مناهضة السياسات
العدوانية والتدخلية للقوى الخارجية في شؤون أوطاننا، وهي سياسات يعرفونها حق
المعرفة، ولم يدافعوا عنها يوماً أو يبرروها ويروا فيها ملاذاً أو مخرجاً أو رافعة
للحداثة والتقدم، كما فعل في السابق من يحذرون منها اليوم لأنهم “نطوا”
من ضفة إلى أخرى، ويحسبون أن ذاكرة الناس قصيرة، وأنها نسوا مواقف الأمس حتى تُباع
عليهم مواقف اليوم.