المنشور

“مصر لن تسمح لهم” قوى مصر الحية



تطرح التطورات العاصفة في العالم العربي راهناً
قضايا عديدة على محك النقاش والاختبار، من بينها مفهوم الديمقراطية ذاتها، بصفتها
أفقاً منشوداً للشعوب وللنخب السياسية والفكرية على حدٍ سواء، ويمكننا بسط عشرات التعريفات
حين نسعى للرد على سؤال: ما المقصود بالديمقراطية. بدءاً من التعريف الدارج الذي يردها
إلى أصلها الإغريقي القديم، أي حكم الشعب للشعب، أو حكم الشعب لنفسه، وانتهاء بالتعريفات
الحديثة التي تقيم تفريعات عدة لمفهوم الديمقراطية. ولكن على سبيل الاختصار سنورد
هنا، بشيء من التصرف، تعريفاً للأستاذ جورج طرابيشي، نجده الأقرب إلى المعاينة
الملموسة لواقعنا الراهن. 


يقول هذا التعريف بأن الديمقراطية “هي شكل الحياة
السياسية الذي يعطي أكبر الحرية لأكبر عدد، مع حمايته وإنتاجه في الوقت نفسه لأكبر
تنوع ممكن. وليس كافياً القول أن الديمقراطية هي سيادة الأغلبية ومن دون التنكر لهذه
السياسة، فأن الديمقراطية هي بالأحرى سياسة الاعتراف بالآخر، فلا ديمقراطية  خارج نطاق الاعتراف بتنوع الأصول والاعتقادات والآراء
والمشاريع”. وقوام الديمقراطية إنما هو احترام المشاريع الفردية والجماعية التي
تجمع بين تأكيد الحرية الشخصية وحق الانتماء إلى جماعة قومية أو دينية أو سياسية. والديمقراطية
لا تقوم على قوانين فقط، وإنما على الأخص على ثقافة سياسية، والثقافة الديمقراطية هي
في منطلقها الأول ثقافة مساواة. 


يكون المجتمع ديمقراطياً بقدر ما يؤلف بين حرية الأفراد
واحترام الاختلافات والتنظيم العقلاني للحياة الجماعية عن طريق القوانين والآليات التي
تحقق ذلك. والثقافة الديمقراطية هي بدورها نتاج مجهود للتركيب بين الوحدة والتنوع،
بين الحرية والاندماج بين قواعد مؤسسية مشتركة ومصالح وثقافات خاصة. 


التعقيدات المرافقة للتحولات الجارية الآن في
أكثر من مكان في العالم العربي، والتي تتخذ في بعض الحالات طابعاً دامياً، يجب ألا
تقود إلى تبرير الواقع السابق لهذه التحولات، فلولا فساد الطغمة السياسية التي
حكمت العالم العربي وطغيانها، وقمعها للحريات السياسة وإهدارها لكرامة المواطنين،
لما كان للانفجار الذي جرى أن يأخذ هذا الطابع الواسع، وما ترتب عليه من تشظيات،
ولو أنها سارت على نهج الإصلاح، وتمكين المجتمع المدني والقوى السياسية في أن تكون
شريكاً في إدارة الدولة والمجتمع، لما بلغنا الحال الراهن، ولما انتعشت القوى غير
الحداثية التي وجدت لها في الأوضاع السابقة للتغيير بيئة خصبة لنموها واستشراء
نفوذها، فبراغماتية الأنظمة العربية في محاباة هذه القوى وتمكينها، لقطع الطريق
بوجه القوى التقدمية والديمقراطية، مسؤولة إلى حد بعيد عن التعقيد الراهن. 


ما أظهرته القوى الحية في مصر اليوم من رباطة
جاش وتصميم  في مواجهة مساعي الإخوان
المسلمين للتسلط على المجتمع والاستحواذ على مفاصله، دليل على أن المخاض
الديمقراطي طويل ومعقد، والمجتمع الذي تحرر من الهيمنة القديمة لن يقبل أن تفرض
عليه هيمنة جديدة تحت أي مسمى كانت. هذا هو الدرس الذي توجهه مصر العظيمة بشبابها
ومناضليها ومثقفيها وبعمقها الحضاري والثقافي، وهو درس لكل الذين يهابون التغيير،
ويُخوفون الناس منه لأن هذا التغيير نقيض أنانيتهم وتمسكهم بمصالحهم التي تكونت
بالطرق الحرام.