المنشور

ثقافــــة الاســـتقالــــة..!


قال فولتير: «حتى الخطأ له قيمة».. وعندما يخطئ من هو في موقع مسؤولية فإن الاستقالة لها قيمة ولها اعتبار، وقد تكون الشيء المشرف الوحيد الذي يمكن للمسؤول القيام به، هذا ما قاله بالضبط مدير عام ورئيس تحرير الـ «بي بي سي البريطانية»، حين استقال مؤخرا على خلفية نشر خبر غير صحيح عن فضيحة جنسية لمسؤول سابق.. مع ملاحظة انه ليس المسؤول المباشر عن الخطأ..!!
 
يا ترى كم من المسؤولين عندنا بحاجة الى شجاعة مع الذات والاقدام على الشيء الوحيد المشرف؟ وهناك الكثير مما يمكن استحضاره والتذكير به من النوع الذي يجعل تلك الخطوة تستحق التفكير حقا، يكفي ما يرد في تقارير ديوان الرقابة المالية والادارية، ففيه ما يثبت ان هناك من يرتكب اخطاء تلو اخطاء، وتجاوزات تلو تجاوزات تفرض المساءلة القانونية والسياسية ولو عند حدها الادنى..!!، ولكن لا شيء يتحرك، ويبقى كل شيء على حاله ولا احد يستقيل او يقال..! تقرير ديوان الرقابة المفجع في تفاصيله، والمعلومة اصداؤه، وردود الافعال الرتيبة حياله وعلى كل المستويات، وبالوقائع والحيثيات المذهلة التي لا يخرج اي مسؤول عنها بسلام في تلك الدول التي تؤمن بأن المسؤولية تكليف وليس تشريفا، ويتحمل فيها المسؤول نتائج ما يفعل.. هناك لا ينتظر المسؤول المخطئ تعليمات من فوق او سلطة لا يرد لها امر لكي يستقيل اذا اخطأ او اخفق او اهمل او فشل، هو مسؤول حتى ان لم يكن ظالعا بشكل مباشر، لذا نراه يقوم من تلقاء نفسه بالشيء الوحيد المشرف، يستقيل احتراما للناس، واحتراما للمسؤولية، واحتراما للرأي العام حيث له قيمة ومكانة واعتبار ويعمل له الف حساب. في تلك الدول التي نعنيها والتي تكون فيها الاستقالة شيء مشرف، وجدنا وزير داخلية بلجيكا يقدم على استقالته متحملا بجرأة المسؤولية الادبية والسياسية عقب مصرع سيدة نيجيرية اثناء محاولة الشرطة ترحيلها بالقوة لمخالفتها قانون الاقامة، وفي اليابان وجدنا مسؤولا رفيعا استقال بعد ان اكتشف انه يركب القطار مجانا..! وفي سنغافورة اعفى وزير العمل من منصبه ووضعت صورته في متحف مكافحة الفساد لكي يكون عبرة لغيره، تخيلوا التهمة، فسعادة الوزير وهو المعني بالسياحة حصل على كوبونات مجانية لقضاء ليلتين في احد المنتجعات السياحية!! وفي كوريا الجنوبية وجدنا وزيرا غادر منصبه بعد ان كشفت لجنة مراجعة حكومية ان الوزارة منحته معاملة تفضيلية لابنته بتعينها في وظيفة، وفي فرنسا دفعت الصحافة هناك مسؤولين فرنسيين الى تقديم استقاليتهما اثر انتقادات لهما باساءة استخدام المال العام، وليس «هبر» المال العام، وفي المانيا وجدنا رئيس المانيا الرابع عشر كريستيان فولف، وليس غيره قد استقال في فبراير الماضي بتهم ليست من نوع التربح بالمليارات او استغلال مرافق واراضي الدولة وهدر مواردها، هو استقال لان التهمة الموجهة ضده كانت و” قبل ” توليه الرئاسة، عندما كان حاكم ولاية، انه اخذ قرضا بنسبة مخفضة لبناء منزل له، وبتهمة قضائه بضعة ايام في فندق كهدية، وذلك في العرف الالماني استغلال منصب..! تلك عينة ليس الا.. وبوسعنا ان نستمر في اطلاق الامثلة الى ما لا نهاية لما يحدث في البلدان التي لا مجال للمساومة فيها على قيمة المساءلة وتفرض حضورها في الوعي العام، وتجعل كل مخطئ او متجاوز، او فاسد مهما علا شأنه ومقامه خاضعا دون تردد او تلكؤ للمحاسبة.
 
صحيح انه لا يخطر على بالنا ان يحدث عندنا ما يحدث في تلك الدول التي فيها القانون سيد الموقف، ويسدون بالقانون المنافذ التي تمنع تعارض المصالح، ويقوون نظم الرقابة الداخلية ويتخذون الاجراءات التي تضمن المساءلة من خلال عمليات التدقيق الداخلي والكشف عن الذمة المالية للمسؤولين، ويحمون المبلغين عن الفساد، ويلزمون بالشفافية الحقيقية والفعلية وليست الصورية في المشتريات والمناقصات وفي التعينات والترقيات واللوائح والاجراءات ويدرجون نشر مكافحة الفساد ضمن مناهجهم التعليمية. في تلك الدول يتم قدر الامكان سد تلك الابواب التي تقوم على التسلق والانتهازية والمحسوبية و «هذا ولدنا» «وهذا من جماعتنا»، وكل ما يخل بموازين الفرص ومعايير الكفاءة، وهناك لا يجد المسؤول المخطئ صاحب قرار «اجوديا» يعطيه جرعة تطمينات او يشمله بالعطف والرضا ليخرجه من اي مأزق «كالشعرة من العجين» ويعفيه من اي سؤال او حساب، فالمسؤولية تعني ضمن ما تعنيه ان يكون المسؤول صالحا للمؤاخذة على اعماله وملزما بتبعاتها وباستحقاقاتها، ومن ضمنها الاستقالة فهي ضمن مجمل القيم الحاضرة دوما في ساحة الاداء العام وفي كل الميادين.
 
من يقرأ حالات القصور والخلل والاخطاء ومظاهر الفساد التي رصدها ديوان الرقابة المالية والادارية يندهش من هذا «التطنيش» وهذه اللامبالاة في اهدار قيمة المساءلة، وتغييب ثقافة الاستقالة، كل هذا الكم من التجاوزات والمخالفات التي يكشفها الديوان في تقاريره سنويا لم تدفع وزيرا او مسؤولا الى الاستقالة او حتى التلويح بها، بل لم تدفع احدا ممن يفترض انه معني بالتجاوزات الى اي نوع من المساءلة، والأدهى والأمّر اننا نشهد اشارات وتبريرات تصب في مجرى تمرير هذه التجاوزات في هدوء..!! .. يكفي متابعة اصداء تقارير الديوان على مدى تسع سنوات للتيقن من ذلك.
 
السؤال: متى تتحرك الدولة بعيدا عن الهزل والتمويه والاجراءات ذات الطابع المسرحي، والتي لا تزال بلا شك ماثلة على عدة مستويات وفي اكثر من ملف وفي مقدمتها ملف مشروع مستشفى حمد الجامعي، وملف تقارير الرقابة، والمخزون والمكنون في هذه الملفات وفي غيرها يجعل من ثقافة المساءلة، وثقافة الاستقالة مطلب الساعة، وهو مطلب لا نراه يحتاج الى معجزة من السماء..!
بقي ان لا ننسى ان الاصلاح ومكافحة الفساد وجهان لعملة واحدة.
 
 
حرر في 30 نوفمبر 2012