المنشور

تحولاتُ اليسارِ الإيطالي (2-2)

كان خروجُ الحزب الشيوعي الإيطالي قويا بعد الحرب العالمية الأولى هو جزءٌ
من التضحيات الجسام الوطنية التي بذلها للدفاع عن الوطن والديمقراطية ضد
الفاشية.


لكن جماهير الشعب كانت بحاجة الى إعادة ترميم الوطن وارتفاع
مستوى حياة الشعب ولهذا فإن أطروحات الحزب الاشتراكية لم تلق صدى على مدى
عقود، وعجز فيها الحزبُ عن الوصول الى السلطة لتشكيل النظام الاشتراكي
الموعود، فيما تقبل الشعبُ الشيوعيين كحكامٍ كثيرين للبلديات والأقاليم، أي
بصفةِ التنظيم مساهما في تطوير النظام الرأسمالي الديمقراطي.


لم
يستطعْ الحزبُ الخروجَ من قيوده الايديولوجية السوفيتية الروسية، وبدت
اللافتاتُ الكبرى عن الحركةِ الشيوعية العالمية ذات الايديولوجيا الموحّدة
تضطربُ وتتقلقلُ بين عقدٍ وآخر، وقد عبرتْ تلك اللافتاتُ عن الصلاتِ
التنظيميةِ والمساعدات التي كانت تُعقدُ بين الحزب وروسيا، ولكن الحزبَ
الشيوعي الإيطالي صار حزبا جماهيريا كبيرا وذا نفوذ وطني وإمكانيات، كما أن
أوروبا الغربية بدأت تتحولُ إلى كيانٍ رأسمالي موحدٍ عالمي متقدم ينافسُ
الولايات المتحدة الأمريكية أقوى قوة اقتصادية في العالم.


كانت
الايديولوجيا المُصدرةُ من روسيا، أيديولوجيا رأسماليةِ الدولةِ
الدكتاتورية، لم تُواجه من قبلِ عقلا ماركسيا متقدما في إيطاليا، ولم تسعفْ
جرامشي أدواتهُ التحليلية الجزئيةُ المحدودةُ في فهمِ الإشكالية
التاريخية، وكان انفصالُ الحزب الشيوعي الحاد عن الاشتراكية الديمقراطية
وخطأ هذا الانفصال، وصعوبة الاعتذار عن كل تاريخ الانشقاق بين الحركتين،
وسيطرة البيروقراطية الحزبية المستفيدة من هذا التشكيل السياسي الطويل، هذا
كله جعل من الصعب القيام بنقدٍ ذاتي عميق واسع، ولكن الاختلافات الموضوعية
بين الجسمين السياسيين الاجتماعيين، جسم روسيا الغارقة في سيطرةِ
رأسماليةِ الدولة الروسية القومية المهيمنة المتآكلةِ تاريخيا والعاجزةِ عن
التحولِ لمجتمعٍ ديمقراطي حديث، وجسم أوروبا الغربية المتطورة نحو آفاق
أكبر من الحداثة والديمقراطية والتوحد، كانت تَظهرُ بأشكالٍ عفوية جزئية
وتحدثُ صداماتٍ بين الكيانين.


ظهر ذلك في تصاعدِ مجموعة الشيوعية
الأوروبية الرافضة لمركزٍ روسي مهيمن تعبيرا عن تباين مستويي التطور
التاريخيين. ومنذ سنة 1976 وفي مؤتمر الأحزاب الشيوعية في برلين تصاعدتْ
الخلافاتُ بين الشيوعيين الأوروبيين وروسيا، وعبّر زعيم الحزب الشيوعي
الإيطالي برليجوير عن عدم وجود مركز واحد للحركة، وأكد أن النظرية
الماركسيةَ لم تواكب تحولات العالم، وأكد تمسكه بحرية الصحافة وحق الاضراب
في النظام الاشتراكي، (الأورو شيوعية والتوازن الدولي الجديد، عبدالعاطي
محمد، السياسة الدولية 1977).


كانت هذه مسائل سياسية صغيرة تعبرُ عن
مدى الجمود في الأحزاب الشيوعية الأوروبية نفسها، وتمحورت في كثيرٍ منها
على مسائل السياسة الخارجية: كرفض وجود قيادة مركزية للحركة، وغزو
افغانستان المستهجن، وغياب حريات المبدعين والمنشقين في روسيا، ورفض
الصراعات داخل(المعسكر الاشتراكي) وغيرها من المسائل التي عبرتْ عن ضيقِ
أفق هذه الأحزاب في الوقت الذي كانت كرةُ الثلجِ الشمولية تتدحرجُ متجهة
لضرب الأسس العامةِ للنظام السوفيتي.


كانت القداسةُ الموجهة لنظام
رأسمالية الدول الشمولية الروسية تعبرُ عن ضياعٍ نظري هائل، حتى إذا حدثت
الكارثةُ وتفجرتْ شظاياها على العالم، كان اوان الإصلاحات العميقة داخل هذه
الأحزاب قد فات زمنه، ولهذا رأينا الانتقادات تتوجه لجزئيات معبرة عن
تفكير محدود، لأن أغلب الأسس التي أُقيمت عليها هذه الأحزاب في الأممية
الثالثة بقيادة لينين ثبت بطلانُها لكن لم تتم مراجعتها، وتكشف التاريخ
بشكلٍ مرعب فليس ثمة اشتراكية ولا دكتاتورية بروليتاريا، بل نظامٌ آسيوي
«نهضوي» استبدادي.


وأمام هذه التحولات العاصفة كان الجثومُ في عقلية
الأممية الثالثة مدمرا، ولهذا فإن الحزب الشيوعي الإيطالي ذو الجماهير
الكبيرة امتلأ بانشقاقات عديدة وحدثت انقساماتٌ كبيرة داخله وظهرت أسماء لا
يمكن متابعتها بدقة عبر هذا العرض الموجز، وقفزت أحزابٌ يمينية للسلطة في
إيطاليا واسهمت قوى قريبة لليسار فيها، ولكن كل المقاربات(الشيوعية)
للديمقراطية الغربية لم تصل الى العودة للاشتراكية الديمقراطية والنضال
الإصلاحي التدريجي والقبول بالتعددية وفهم أن التشكيلة الرأسمالية العالمية
تحتاج الى عقودٍ وقرون كي يظهرَ البديل من داخلها، ودور الأحزاب التقدمية
تغيير ظروف حياة شعوبها الراهنة والدفاع عن الطبقات العاملة وأوضاع الأمم
والشعوب المتداخلة معها لتتحقق تحولات ديمقراطية مستمرة.