المنشور

أوباما العائد



كما
فعلت قبل أربع سنوات، أعادت أمريكا انحيازها إلى خيارها في العام 2008 حين
أظهرت جاهزيتها الثقافية والسياسية لقبول أن يكون رئيسها غير أبيض، وكما
في المرة الأولى أحيطت إعادة انتخاب أوباما بتأكيدات على الشوط الذي قطعه
المجتمع في أن يتعامل بتكافؤ ومن دون عقد مع مكوناته كافة، حين يتعلق الأمر
بممارسة الحقوق السياسية، وكانت لحظة مؤثرة التي أعلن فيها غريم أوباما
ومنافسه الجمهوري رومني، وهو يعترف بعدم محالفة الحظ له، أنه هنأ الرئيس
أوباما بفوزه، داعياً الأمة إلى إعادة التوحد حول رئيسها الذي اختارته
أغلبية الأمريكيين . إنه درسٌ في الديمقراطية وفي السلوك السياسي المتحضر .


حقق
باراك أوباما، أول رئيس ملون للبيت الأبيض، الاختراق الذي كان يبدو حتى
عقود، لا بل سنوات قليلة مضت، عصياً، فبدت أمريكا معه كأنها تنتصر على
نفسها، على إرثها الثقيل في التعامل مع السود والملونين كما لو كانوا
مواطنين أمريكيين من درجة أقل من تلك التي للبيض، وبالتأكيد، فإن أمريكا
بهذا الاختيار انتصرت لنفسها أيضاً، لحاجات التطور الموضوعي التاريخي الذي
يفرض عليها التصالح مع واقعها ومع نسيجها السكاني المتعدد الذي منه تتكون
الأمة الأمريكية .


وعد
أوباما مواطنيه بمواصلة التغيير، والمسافة بين الوعد الانتخابي وتحقيقه
كبيرة، ليس لأن نوايا من يَعد هي بالضرورة ليست صادقة، وإنما لأن المجتمعات
التي تُدار بأنظمة الدولة والمؤسسات تظل محكومةً بآليات راسخة، لا يستطيع
الرئيس الفرد مهما بلغت قوته، أن يلغي ما أرسته من أسس وقواعد، عليه
التعامل معها، خاصة أنه جاء إلى الرئاسة بموجبها . ورغم أن خصوم أوباما
يقللون من قيمة حصاد السنوات الأربع التي قضاها في البيت الأبيض، فإن نتائج
الانتخابات أظهرت أن أغلبية الأمريكيين لا يزالون يثقون به، لذلك قرروا أن
يمنحوه فرصة أخرى ليواصل ما يرون أنه قد بدأه .


مع
ذلك يتعين القول إن “ثوابت”سياسة دولة عظمى كالولايات المتحدة لا يصنعها
سيد البيت الأبيض وحده، ولا إدارته، سواء كان الرئيس ديمقراطياً أو
جمهورياً، فسياسة الدولة هناك، خاصة في وجهتها الخارجية، ترسم من قبل عدة
مواقع قرار ولوبيات مالية وسياسية ضخمة، وليس بوسع الرئيس أن يتجاهل نفوذ
الكونغرس ومصالح البنتاغون والمجمع العسكري، وتأثير وكالة المخابرات
المركزية الأمريكية “سي  .آي  .
إيه«، ولذا فبعض الرهان العربي قبل إعلان نتائج الانتخابات، على فوز
الجمهوريين، توخياً لمواقف أمريكية مختلفة على الصعيد العربي، رهان مبالغ
فيه، كي لا نقول إنه في غير محله، فحتى لو فاز رومني فإنه لن يقلب سياسة
أوباما الخارجية عاليها سافلها، حتى لو أدخل عليها بعض اللمسات المختلفة،
ويمكن ملاحظة ذلك من سلوك أوباما نفسه الذي ورث عن جورج بوش الابن تركة
ثقيلة، لكنه ظل وقد بلغ نهاية ولايته الأولى يتعثر في أن يعيد إلى أمريكا
شيئاً من الرشد بعد الجنون الذي قادها إليه بوش وفريقه من غلاة المحافظين
الجدد الذين دفعوا أمريكا والعالم كله إلى المهالك أو ما يشبهها .


والديمقراطيون
كما المحافظين الجدد ينظرون إلى المنطقة العربية باعتبارها المنطقة
الوحيدة التي تغيب عنها الديمقراطية، ولكن التجربة أظهرت أنهم كأسلافهم
معنيون بالمصالح لا بالمبادئ، وهذا ما ستبرهن عليه، مجدداً، الولاية
الثانية لأوباما، فهو لن يقوى، ولن يرغب، في الخروج عن قماط هذا النهج .