المنشور

إلى متـــــى نئــــن فســــــاداً..؟


لا يلام البحرينيون حين يجاهرون بالاستياء من ذلك الكم وتلك النوعية من المخالفات والتجاوزات وتلك الاخطاء والخطايا التي تكشفت اخيرا في وزارات ومؤسسات وهيئات رسمية. كما لا يلام البحرينيون حين يبدون انزعاجا من هذا المدى في استمرار جهات رسمية على النهج ذاته من الاداء والتقصير والاخفاق والفشل والارتجال وعدم وضوح الرؤية وتكرار المخالفات الصريحة للقانون والمخلة بواجبات الوظيفة العامة وبابسط مبادئ المسؤولية، من دون تغيير في النص والمشهد وربما الشخوص، ومن دون رادع او خشية من عقاب، وكأن قيمة المساءلة والمحاسبة قد شيعت او كادت الى مثواها الاخير..!!
 
ومن وحي الوقائع والتجربة لا يلام البحرينيون حين يقابلون بريبة اي تطمينات او اي كلام عن لجان تحقيق حكومية او برلمانية، او وعود باجراءات ردع وحسم بحق المخالفين ومن انتهكوا النظم والضوابط المالية والادارية ومارسوا شتى صنوف الفساد، فالتقارير المتعاقبة على مدى 9 سنوات لم تثمر عن محاسبة مسؤول واحد على اي اخطاء او تجاوزات، بل يفاجأ الناس بان هذه الاخطاء والتجاوزات تتكرر عاما تلو عام، يتلوها كلام ووعود تتكرر لا تخرج في جوهرها عن دائرة «ذر الرماد في العيون»..!!
 
كما لا يلام البحرينيون حين يرتفع منسوب القلق لديهم من هذا التلكؤ في وضع ملف الفساد في صدارة الاولويات، ومن استمرار التعاطي مع تقارير ديوان الرقابة المالية والادارية باستخفاف كحدث سنوي عابر، ومن استمرار اعتبار المكتشف من التجاوزات الصريحة والمستفزة وكل ما يدخل في تعريف الفساد بانها ملاحظات، مجرد ملاحظات ستخضع للدراسة، ولا يلام البحرينيون حين يقلقون من تكليف نفس الجهات التي ارتكبت او تورطت في الاخطاء والخطايا القيام بالتصحيح والمعالجة دون ادنى مراجعة للمنهجية المتبعة التي انتجت ذلك الحمل الثقيل من مظاهر التقصير والتخبط والمفاسد، وكما من حق البحرينيين ان يستشعروا احباطا ويأسا حين يقرأون تصريحات نواب وهم يجاهرون بانهم غير قادرين على ان يمارسوا دورا يوقف الهدر للاموال العامة، وبانهم «يجتهدون للحد من المخالفات» ويكتفون بالشجب والادانة ويذكروننا بالآليات الدستورية المعطاة لمجلس النواب للتعامل مع تقرير ديوان الرقابة ويصفونها بانها «عقيمة»، ويؤكدون بان كل ما يمكن ان يقوموا به هو «: ان يوجهوا سؤالا للوزير او يشكلوا لجنة تحقيق».. «الايام- الجمعه 2 نوفمبر 2012».
 
ذلك الاستياء، وذلك الانزعاج، وتلك الريبة، وذلك القلق وذلك الاحباط واليأس، يعني ان الناس في هذا البلد باتوا مسكونين بالمرارة والسخط والنقد اللاذع جراء هذا الذي يتم تداوله والمعبر عن صور ومظاهر فساد وانحراف، تمثلت بالتربح الشخصي من الوظيفة العامة، وسوء استغلال السلطة، وهدر الموارد المالية وتدني اخلاقيات المهنة، بجانب تلك المتمثلة بتدنى مستوى الاداء والكفاءة، والمخالفات الصريحة للقانون والممارسات الملتوية التي تصل حد التزوير بالاضافة الى صور الاهمال والعبث بمستلزمات الشفافية وغيرها من الصور والمظاهر التي من الصعب تصور ان تمر مرور الكرام في بلد آخر.
 
يبقى استخلاص نعود اليه.. بعد نشر التقرير الأخير، وفيه ما فيه من حيثيات لازمت الكثير من الانشطة والاجراءات التي انطوت على خرق او تجاوز او هتك مذهل ومستفز للقواعد الادارية والمالية والاخلاقية وكل ما عدّ مصدرا للفساد بل منبعه، ثمة استخلاص تمثله تساؤلات حائرة:
الى اي مدى يمكن الاستمرار في هذا الواقع والى متى تبقى حالة التراضي الراهنة؟، ثم هل من جهة رسمية او اهلية اجرت عملية حسابية لمجموع الهدر والنزيف في المال العام جراء تلك الخروقات والتجاوزات على مدى السنوات التسع الماضية؟، وكم كان يمكن لو وجه المال العام الوجهة الصحيحة ان يؤثر على تحسين اوضاع المواطن وحل مشاكل مستعصية من اسكان ورواتب متدنية وتقاعد وبيوت آيلة للسقوط، وبطالة، ….. الخ،
ثم ماذا يعني تكرار المخالفات؟، او ان 35% من توصيات التقرير السابق لم تنفذ؟ وماذا يعني ان هناك وزارات لم تنفذ ايا من توصيات المهام الرقابية وكأنه لايهمها لامساءلة ولاحساب؟، وماذا يفهم من اعلان بعض الوزارات في الايام الماضية بانها ستبدأ تنفيذ التوصيات اليس لذلك معنى لا يخفى على ذوي الفطنة؟ وهل افتقدنا الى مسؤول يمتلك الشجاعة ليظهر على الملأ مبرءا ساحته من اي شبهة؟،
ثم ماذا يعني ان المواطن لم يلمس خطوة واحدة تشفى الغليل على طريق المواجهة الفعلية لهذه التجاوزات؟، واذا كان هناك خطوة او خطوات اتخذت فلماذا لم يعلن عنها من باب الشفافية التي يدعي الكل وصلا بها؟،
ثم ماذا يعني عدم تمكين ديوان الرقابة لحقه في احالة المخالفات والتجاوزات الى النيابة العامة اذا كان حقا يمتلك هذا الحق؟،
ثم ومتى يستمر هذا المستوى المتدني من النواب في التعاطي مع كل تقرير من تقارير الديوان؟، وهل يشفع للنواب توجيه سهام النقد الى الحكومة ظنا منهم ان اصواتهم العالية وخلط الاوراق ستقنع الجميع بانهم يمارسون حقا دورهم الرقابي، وماذا يعني ان يظل قانون كشف الذمة المالية حبيس الادراج منذ صدوره في يوليو 2010؟
واخيرا اذا كان ظاهر المخالفات هو توصيف عام وتفتقر الى التوصيف الجنائي الذي تختص به النيابة العامة والقضاء كما قال المحامي فريد غازي، اليس حريا ان تباشر هذه السلطة التحرك والتحقيق؟
 
ان من يستبيح نظم التوظيف والرواتب والترقيات ويضربها عرض الحائط ويمنح مكافآت وعلاوات لاشخاص بعينهم دون وجه حق ويخالف قانون تنظيم المناقصات والمزايدات والمشتريات الحكومية، ومن يمنح اعفاءات غير مبررة او تنفيذ مشاريع من دون دراسات جدوى واعتمادات مالية، ومن يتعامل مع مقاولين واستشاريين وفق قواعد المصلحة الخاصة القائمة على التنفيع والاستنفاع، ومن يعيّن موظفين غير بحرينيين يحصل الواحد منهم يوميا على 350 دينارا دون معرفة حضورهم وانصرافهم وانتاجهم، وعندما يقوم رئيس كلية وزوجته بالاستجمام حول العالم من ميزانية الكلية، وعندما يتم توظيف غير المؤهلين اكاديميا من دون اعلانات او معايير او ضوابط، وعندما تختفي مستندات ثبوتية للمصروفات وتجاوزات في مدن رياضية لم تجهز بعد، وعندما تحدث مخالفات هنا وهناك وهنالك من العيار الثقيل والتي تجعل المرء يكتشف باننا امام معضلات احد عناوينها الكبرى ” الفساد “، نكون عندئذ بحاجة الى عمل وطني جامع بكل معنى الكلمة.. عمل عنوانه «محاربة الفساد» والا سيبقى وطننا يئن من الفساد والمفسدين

وحسبنا الله ونعم الوكيل.


13 نوفمبر 2012