المنشور

نازع القناع الأبيض



فرانز فانون نازع القناع الأبيض







  اختارت الأمم المتحدة قصيدةً وضعها طفل أفريقي كأفضل قصيدة للعام 2008، وتقول أبيات  هذه القصيد المدهشة: 

حين وُلدتُ، أنا أسود / حين كبرتُ، أنا أسود / حتى وأنا في الشمس، أنا أسود / حين أكون مريضا، أنا أسود / حين أموتً، أنا أسود / وأنت أيها الأبيض / حين تولد، أنت زهري / حين تكبر، أنت أبيض / حين تتعرض للشمس، أنت أحمر/ حين تبرد، أنت أزرق / حين تخاف، أنت أصفر / حين تمرض، أنت أخضر / حين تموت، أنت رمادي / وأنت تصفني بأني ملون؟ “
حضرت في ذهني هذه القصيدة على خلفية إعادة انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية لولاية ثانية، ما يطرح سؤالاً عما إذا كانت أمريكا بتجديد هذا الاختيار تنتصر على نفسها، على ارثها الثقيل في التعامل مع السود والملونين كما لو كانوا مواطنين من درجة أقل من تلك التي للبيض، وبالتأكيد فإن أمريكا بهذا الاختيار انتصرت لنفسها أيضاً، لحاجات التطور الموضوعي التاريخي الذي يفرض عليها التصالح مع واقعها ومع نسيجها السكاني المتعدد الذي منه تتكون الأمة الأمريكية، ربما يبدو هذا السؤال مبكراً بعض الشيء، ولكن  علينا القول أن ثمة اختراقا مهماً قد حدث.
إزاء الأمرين: قصيدة الطفل الأفريقي المدهشة وإعادة انتخاب أوباما ليس بوسعنا ألا نعود  للمفكر العبقري فرانز فانون مؤلف: “بشرة سوداء .. أقنعة بيضاء” و”المعذبون في الأرض”، الذي  كان يدرك أن الانفجار لن يحدث لحظتها، لعل الوقت كان متقدماً جداً أو متأخراً جداً كما أومأ هو بنفسه إلى ذلك. 

كان فانون يتصرف كأي عالم حقيقي لا يركن إلى اليقين أبدا: “أنا لا أصل البتة مسلحاً بحقائق حاسمة.. وعيي لا تخترقه ومضات جوهرية”. لكنه يرى، وبكل صفاء، أنه من المفيد أن تقال بعض الأمور وهو يحلل كيف يتصرف الرجل الأبيض، الذي خلق لنفسه دوماً صورة المنتصر والفاتح والمنقذ، إزاء البشر الآخرين من الملونين والسود، ثم يحلل كيف يتصرف هؤلاء الملونون والسود تحت وقع ذلك الشعور بالانسحاق الذي جلبه لهم الأبيض السكران بنشوة التفوق. إن الأمريكيين البيض هم الشعب الوحيد الحديث تبعا لأقصى ما تتيحه ذاكرة إنسان، الذين كنسوا عن الأرض التي استوطنوها السكان الأصليين. يمكن لنا العودة إلى النص المدهش لمحمود درويش: “الخطبة الأخيرة للهندي الأحمر أمام الرجل الأبيض” لندرك هول الكارثة. 


 وفانون يرى أن أمريكا وحدها كانت تستطيع أن تكون ذات إحساس قومي بالخطأ وتسعى للاعتذار عنه، لكنها لم تختر هذا السبيل، إنما سعت لتهدئته من خلال اختراع صورة الهندي الأحمر السيئ، لكي تتمكن لاحقاً من إعادة إدراج للصورة التاريخية لصاحب البشرة الحمراء الذي يدافع بلا نجاح عن ترابه الذي خلق من عجينته بمواجهة الغزاة المسلحين بكتب مقدسة وبنادق. بعد ذلك بقرون سيأتي الفتيان السود يرددون في المدارس نشيد “آباؤنا الغالون”، وهو نشيد يتماهى مع المستكشف، مع الرجل الذي يزعم أنه جلب الحضارة، جلب الحقيقة “البيضاء” تماماً، صافية. يراد من هؤلاء الفتيان نسيان أن تلك الحضارة البيضاء إنما شيدت بعرق ودماء أجدادهم، فالآباء الغالون في النشيد ليسوا هم أولئك الأجداد ولا أولئك الهنود الحمر الذين أبيدوا عن بكرة أبيهم تقريباً، لحظة أتى المغامرون البيض بحثاً عن الذهب في العالم الجديد. 


 لم تكن أمريكا قد بلغت ما بلغته اليوم من جبروت وطغيان حين حلل فانون سلوك الرجل الأبيض، لكنه كان يضع قاعدة فيها نبوءة رجل العلم الذي يهجس بأن هذا السلوك سيغدو كونياً، إن ذات الذهنية التي حكمت سلوك المغامرين الأُول الذين استباحوا براءة القارة الأمريكية مترامية الأطراف، ستؤسس لنهج أكثر شمولاً حين يتصل الأمر بالعالم كله. على غير الأمريكي، أبيض كان أم أسود، أن يغدو أمريكياً لا بالنسب، وإنما بالخضوع، بالتماهي مع “ثقافة” تعلن نفسها ثقافة منتصرة على العالم كله، بحيث يغدو من واجب الفتيان الصغار في مدارس العالم أن يرددوا النشيد الأمريكي بالمفردات التي تحمل معاني قهرهم وإخضاعهم.


في كتابه الشهير “معذبو الأرض”، خصص فانون فصلاً مهماً لما ندعوه الثقافة القومية أو الوطنية. كان الرجل الذي تجري العودة إليه باهتمام كبير في العقدين الماضيين بعد كثير أو قليل من النسيان، يحلل العلاقة المعقدة من أوجهها المختلفة بين الاستعمار والشعوب التي استعمرها. اليوم أيضاً تظل العودة إلى فانون ضرورية، لأن هناك من يريد شطب الثقافات الوطنية والقومية على مدار القارات المختلفة بما تختزنه من ثراء وخصوبة وتنوع لا متناه، إمعاناً منه في التماهي مع ما بتنا نعرفه بالعولمة الثقافية، التي لا تقدم للأسف سوى نموذج واحد. ومهما كان رأي المعجبين به فإنه يظل نموذجاً فقيراً وشاحباً بالقياس لذلك الكم الهائل من النماذج التي تدبّ فيها دماء الحياة في مناطق الكوكب المختلفة، ويريدون قطع شرايينها كي تموت.
إن المسألة أبعد ما تكون عن حيز التعصبات القومية والعرقية، وإنما تتصل بالسياقات التاريخية والمصائر المختلفة للأمم والشعوب، والتي تعطي تعبيرات ثقافية وفنية وإبداعية متنوعة، ولا نقول متناقضة. في حينه، لاحظ فانون أن الزنوج الموجودين في الولايات المتحدة وفي أمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية كانوا في حاجة إلى أن يتشبثوا بإطار ثقافي. وكانت المشكلة المطروحة عليهم لا تختلف اختلافاً عميقاً عن المشكلة التي يواجهها الإفريقيون في القارة الأم التي أتى منها أسلافهم، أي إفريقيا. إن سلوك بيض أمريكا إزاءهم لا يختلف عن سلوك البيض المسيطرين على إفريقيا إزاء الإفريقيين، لكن ليس كافياً أن تحصر المهمة في أن نبين للأوروبيين المتبجحين النرجسيين أن هناك ثقافات أخرى في هذا العالم، رغم أن هذا الموقف يبدو طبيعياً ويستمد مشروعيته من الأكاذيب التي أشاعها رجال الثقافة الغربيون، لكن اتضح أن الظروف الخاصة بالزنوج في أمريكا قد فرضت سياقاً ثقافياً آخر مختلفاً عن ذاك السياق الموجود في البلدان الإفريقية، بالطريقة التي تجعل من المتعذر الحديث عن ثقافة “زنجية” خالصة، بصرف النظر عن البلد الذي يعيش فيه المثقفون ذوو الأصول الإفريقية.
إن مجمل النهج الكولونيالي في العلاقة مع الشأن الثقافي في البلدان التي استعمرها الأوروبيون، يشير إلى أنه ما من شيء تم مصادفة، حيث أدت المشكلة الثقافية في هذه البلدان إلى التباسات خطيرة. إن اتهام الاستعمار للزنوج بأنه لا ثقافة لهم وللعرب بأنهم متخلفون، قد أديا منطقياً إلى إثارة ردود فعل منطقية ومشروعة في التمسك بعناصر الهوية التاريخية، حتى لو بدت في بعض صورها غير متسقة مع ظروف اليوم، لذا كرَّس فانون حياته لفهم وتحليل ظاهرة الاستلاب الفردي والجماعي التي يعانيها إنسان العالم الثالث المقهور . وكان يركز على تكوين ما أطلق عليه “لاوعي أو شعور جماعي تحرري وأخلاقي إزاء اللاشعور الجماعي”، داعياً ومناضلاً من اجل هزيمة الانهزام الذي تعاني منه النخب المثقفة إزاء الثقافة الغربية.