المنشور

باكستان تجني ما زرعته



باكستان أو أرض الطهور كما هي ترجمتها، دولة مستقلة، اختار مؤسسوها الأوائل
بمحض إرادتهم الانفصال عن الهند بعد استقلال الهند عن بريطانيا في أغسطس عام 1947،
لبناء دولتهم المسلمة الخالصة. وكانت أمامهم فرصة ذهبية لتوظيف المشاعر الوطنية
(حتى وإن كانت ذات نزعة انفصالية) في بناء دولة تتمتع باقتصاد متين، مستفيدة من
طاقاتها البشرية والمعرفية ومن موقعها الجغرافي الاستراتيجي بتموضعها بالقرب من
أكبر وأهم الأسواق العالمية الحيوية والصاعدة. 
  
ولكن حكام البلاد الباكستانية، الاستقلاليين الأوائل وخلفائهم، لم يبذلوا
جهداً مستحقاً للتخلص من بنية الإقطاع السياسي للمكونات والأحزاب السياسية التي
تصدت لعملية التنمية السياسية، بقدر ما اختاروا، بمحض إرادتهم، توريط الدين الحنيف
في حياة بلادهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، خصوصاً في العهود
التي تلت الإطاحة برئيس الوزراء المنتخب ذو الفقار علي بوتو على يد الجنرال ضياء
الحق وإعدامه بطريقة وحشية أذنت بدخول باكستان هذه الدوامة من العنف والعنف المضاد
حتى أضحت البلاد أقرب إلى الحالة المكتملة الأركان لنموذج الدولة الفاشلة “Failed State” أو حتى الدولة المتشردة كما هو
حال الصومال واليمن .. منها إلى فرص وحظوظ النجاة من كارثة الحروب الدينية التي
تردت إليها والتي طبعت عهود الإقطاع في أوروبا ما قبل الثورة الفرنسية. 
  
وما قصة قيام إرهابيين من حركة طالبان بمحاولة تصفية التلميذة الباكستانية
الصغيرة النابغة ملالا يوسفزاي بالرصاص بطريقة مريعة (أوقفوا الباص الذي كان يقلها
مع زميلاتها في طريق العودة من المدرسة وأطلقوا النار عليها وأصابوها إصابات خطيرة
في الرأس والرقبة في محاولة لتصفيتها دخلت على إثرها في غيبوبة). 
  
وكنت قبلاً قد استمعت إليها وهي تتحدث عبر أثير إذاعة البي بي سي في حوار
كانت أجرته معها المحطة الإذاعية البريطانية، حول نشاطها في الدفاع عن حقوق المرأة
الباكستانية في التعليم وعن ردة فعلها على تهديدات حركة طالبان باكستان بتصفيتها
جسدياً، فأدركت أن هذه الصبية الباكستانية التي لا يتجاوز عمرها أربعة عشر ربيعاً
(من مواليد 1998) ليست حادة الذكاء وحسب، وإنما تمتلك قلب أسد، مثلما أدركت سر
فتوى شيوخ الإرهاب في باكستان بسرعة التخلص منها على طريقتهم البربرية. 
  
اليوم باكستان من أقصاها إلى أقصاها تعيش حالة صدمة وذهول .. فجأة تملكت
الجميع حالة طارئة من الوعي وتناسوا فوارقهم فوقفوا جميعاً يصلون في خشوع نادر من
أجل أن تتدخل العناية الإلهية لإنقاذ صبيتهم البريئة التي تمثل الوجه المشرق لأرض
الطهور (الباكستان)، وبذلوا جهوداً واضحة في توفير أفضل المعالجة والرعاية الطبية
داخل البلاد وخارجها للصبية الوديعة ملالا من أجل إنقاذ حياتها. 
  
ملالا يوسفزاي ليست ناشطة حقوقية عادية تدافع عن حق المرأة وحق الفقراء في
الحصول على التعليم والتمتع بالرعاية الصحية والحياة الكريمة من خلال نضالها
اليومي في هذا المعترك وهي لم تزل بعد في الصف التاسع في المدرسة بوادي سوات
المفخخ بالعصبيات المحافظة والمتطرفة قبل “تفخيخه” أيديولوجياً، وبصورة
ممنهجة، بالنسخة الباكستانية من حركة طالبان. (كانت “ملالا” تحلم بأن
تصبح طبيبة تخدم الفقراء في المناطق النائية المحرومة من الخدمات الطبية) .. وإنما
كانت – بالإضافة إلى هذا النشاط البالغ الحيوية والخطورة بالنسبة لمنطقة محكومة
بالجهل والتخلف والتعصب – ناشطة سياسية على مواقع التواصل الاجتماعي تنشر من
خلالها باسم مستعار كل ما ترتكبه حركة طالبان باكستان من جرائم وانتهاكات ضد سكان
المناطق القبلية والنائية الفقيرة. 
  
فهل تكون عبقرية الصبية ملالا، في الزمان والمكان، المقرونة بشجاعة نادرة،
وتضحية خالصة المقاصد من أجل الآخرين، وريعانتها ووداعتها، هي ما استفز بلادة
أبناء وبنات بلادها واستسلامهم لقدر معيشتهم تحت حراب الإرهاب الطالباني، فانتفضوا
في صحوة ضمير جماعية نادرة، وبانصراف إنساني خاشع لحد الدهشة – في حال وضعها قبالة
مسلسل القتل والتدمير شبه اليومي – للتعبير عن حزنهم وعن عدم تصديقهم لما آلت إليه
أحوال بلادهم من انهيار شبه تام للمناقبيات الإنسانية، وللأمن والأمان، وترديها
نحو مهاوي التقهقر والفشل سيراً على خطى الصومال واليمن؟! 
  
إنه بالتأكيد الشعور العام بالذنب الناتج عن تقصيرهم إزاء الصعود المنفلت
للأفكار الفاشية المتخفية وراء الدين، بجانب مشاركتهم، كل من موقعه، بغوغائيتهم واصطفافهم
وراء طوائفهم ومذاهبهم وقبائلهم، في أعمال التطاحن الدموي التي تكاد نعم البلاد
بمؤشرات دالة على “تحضير البلاد وتأهيلها” للحرب الأهلية الأوسع نطاقاً
وضراوةً. ويكفي أن نشير في هذا المقام إلى وجود خمسة ملايين لاجئ باكستاني في
المناطق الغربية للبلاد، شُرِّدوا من ديارهم ليقيمون في مخيمات جنوب بيشاور، ليس
بسبب الكوارث الطبيعية وإنما بسبب الكوارث البشرية المتمثلة في الأعمال الإرهابية
المتواصلة التي يشنها مقاتلو حركة طالبان الباكستانية وتوابعها من الحركات
الإسلامية المدججة بسلاحي التدمير والتكفير. 
  
إنما من المبكر جداً، اعتباراً بما بدا للحظة انه شعور عام بالصدمة والحزن
وتأنيب الضمير على ما وصلت أيادي الإرهاب من محاولة مفزعة لإزهاق روح الصبية
الباكستانية ملالا – من المبكر اعتباره صحوة ضمير متصاعدة الدوائر والوتيرة. 
  
ففي بلاد الشرق تنهض الأسقام والعلل الاجتماعية المتقرحة “بأطوالها
الفارعة” في الملمات الكبرى التي تحط على رؤوس شعوبها هكذا فجأة، ولكن ليس
بلا مقدمات، لتدق النواقيس إيذاناً ببداية وطول رحلة مكوثها وتجوالها – في هذا
الشرق تستغرق  عملية التشافي من أسقام
وأدران عصبياته الحاكمة وقتاً أطول من المعتاد .. أطول من المعدل الوسطي العالمي
للشفاء الاجتماعي من جراحات النفرات العصبية، دينية كانت أو عرقية أو قبلية. مع
الاستدراك هاهنا لأخذ الفوارق في مستويات التطور الاقتصادي والاجتماعي بعين
الاعتبار.