المنشور

السياسة حين تغدو عاطفة



نحن
متورطون، بمقادير مختلفة، في السياسة، ولا منجاة للأدب والفن عموماً، من
أن يتورطا، هما أيضاً، في القضايا المصنفة في عداد السياسة أو الشأن العام .
وحتى في ما نحسبهُ نصاً ذاتياً صرفاً، أو تناولاً لقضية إنسانية ذات صلة
بالقيم الكبرى، تحضر السياسة .


في
»الملك لير« يُقرع شكسبير الاستخفاف بالسياسة، التي هي في أحد أوجهها،
عندما نتحدث عن التباسها بالمشاعر، إحساس بالمعاناة العامة، التي تصبح
المعاناة الفردية في كثير من حالاتها تجلياً شخصانياً لها .


يقول
شكسبير: »تجرعي الدواء، أيتها العجرفة، تَعري لتشعري بما يشعر به البؤساء،
علك تنفضين الفائضَ عنكِ لهؤلاء، وتظهرين السماء أكثر عدالة« . لكن ليس
علينا أن نبحث عن »سياسية« الشعر، مثلاً، في الحدث السياسي، وإنما في
التفاصيل المُرهفة ذات الصلة بهذا الحدث . وفي شعر محمود درويش العديد من
القصائد التي يمكن أن نعدها »سياسية« لارتباطها بحدث سياسي فاجع مثل »أحمد
الزعتر« أو »مديح الظل العالي«، أو مرثياته لرفاقه من قادة وكوادر الثورة
الفلسطينية الذين قُتلوا غيلةً، أو في قصيدته الموجعة عن استشهاد محمد
الدرة .


لكننا
سنندهش حين نشعر، ونحن نقرأ أو نسمع هذه القصائد، بأننا إزاء شعر موغلٍ في
رهافته وإنسانيته، بحيث انه يرتقي بالفاجعة إلى مصاف النشيد الإنساني
الملحمي، الذي يُنسينا لوهلةٍ الحدث الذي منهُ انبثقت فكرة القصيدة، لأنه
وهو يُدخله في ملكوت الخلود الإنساني والشعري، لا يفتعل إضفاء الصفة
الأسطورية عليه، وإنما يحقق ذلك عبر مهابة الشعر في الدرجة الأولى .


شاعر
شهير من البيرو اسمه سيزار فاليجو يستخدم في إحدى قصائده التي لم يضع لها
عنواناً، والمنشورة ضمن مجموعته »قصائد إنسانية« كلمة »سياسي« ليصف بها
حالة الانفعال الفياضة، حين يقول: »لقد اجتاحني لبضعة أيامٍ شعور، فياض،
سياسي، بالهيام وبالرغبة في تقبيل الرقة على وجهيها« .


أحد
النقاد رأى أن هذا النص يكاد يبرز معالم الموجة الأساسية العارمة من الحب
المعطاء اللامعقول التي يتميز بها المزاج »السياسي الفياض« المشترك بين
الناس جميعاً من مختلف المشارب السياسية، فكل الناس يتمتعون بنفس القدر من
العاطفة التي يتم اشتراكهم فيها عن طريق عهد أو ولاء عام، حين يغدو الحب
طاقةً إنسانية طليقةً، لا يمكنها أن تقترن بالشرور .


وتظهر
التجارب أن النفس الانسانية تفصح في منعطفات معينة مقادير مهولة من الشر
داخلها، تحار أين كان كل هذا الشر مخبئاً قبل ذلك، حتى وجد أصحابها في
الفواجع والمآسي فرصتها للانتفاع والتمصلح، وتحضرني في هذا رواية جميلة
للكاتب الرائع فالنتين راسبوتين اسمها: »الحريق«، فيها يتناول أحداث ليلة
واحدة من حياة بلدة سيبيرية تلتهم النيران مستودعاتها الهائلة، وتهدد
البلدة كلها بالإهلاك، لكنه لا يكتفي بوصف فاجعة الحريق، إنما يرصد تشوهات
النفس الإنسانية والتشوه الخلقي الذي أصاب البشر، حين يدفعنا لتأمل الفوارق
بين المخلصين الساعين لإطفاء الحريق، إنقاذاً للبلدة وأهلها، وأولئك الذين
يصبون الزيت في أواره، لأن استمراه يؤمن استمرار المنافع التي تحققت لهم
بسببه .


واقعنا
العربي الراهن أكثر بلاغة من أحداث وتشخيصات هذه الرواية البليغة، فما
أكثر الحرائق المندلعة من حولنا، وتلك المتوثبة للاندلاع من براميل البارود
التي أعدت لذلك، فقط لأن هناك من مصلحته أن تندلع هذه الحرائق وأن تبقى
مندلعة .