المنشور

التوظيف السياسي للعصبيات

 


ثمانون قتيلاً و400 ألف مشرد هي حصيلة المصادمات الطائفية بين المسلمين والهندوس، من قبيلة بودو أساساً التي تقطن المناطق الشمالية الشرقية من ولاية آسام الهندية المحاذية لبنغلاديش . في العادة فان الاحتكاكات والصدامات التي تحدث بين المسلمين والهندوس في هذه الولاية تبقى محصورة ضمن نطاق الولاية نفسها، فيتم احتواؤها وإخماد فتنتها في مهدها . إلا أن ما حدث في الأسابيع القليلة الماضية (خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب الماضيين) في الولاية من مصادمات بين المسلمين والهندوس، خرج عن ذلك النطاق المألوف للصدامات بين الجانبين . فلقد انتشرت رسائل الهاتف النقال التي تحذر الهندوس من هجمات مميتة يحضر لها المسلمون ضدهم بعد انتهاء شهر رمضان، وخلال ساعات من ظهور تلك الرسائل قام الهندوس الذين يعملون في مصنع للسيارات في مدينة بونا بالانضمام الى عشرات آلاف الهندوس الذين فروا من أماكن عملهم وسكناهم قافلين إلى مواطن إقامتهم في المناطق النائية في الشمال الشرقي بعد تلقيهم نفس الرسائل . وقد أدت هذه الرسائل الى نزوح أكثر من 30 ألف هندوسي يعملون في مدن الشمال الشرقي مثل مومباي وبونا وبنغلور وتشناي وحيدر أباد عائدين إلى مدنهم وقراهم . وقد نال العنف الطائفي من بعض هؤلاء وهم في طريق العودة . وزير الداخلية الهندي قال بأن مصدر هذه الرسائل التحريضية هو باكستان .
 
والسبب هو محاولة الأحزاب السياسية والساسة الدينيين استغلال التوتر بين الهندوس الذين يشكلون أغلبية سكان الهند وبين المسلمين الذين يشكلون أكبر الأقليات، حيث يناهزون المائة والسبعين مليوناً . فالبلاد تقترب من انتخابات برلمانية في عام 2014 في ظل ظروف تراجع معدل نموها الاقتصادي وفقدان الوظائف .
 
وبما أن السياسة هي السياسة، فإن من الصعب تنزيه بعض الأحزاب السياسية من الوقوع في خطيئة استثمار التوترات الدينية والطائفية، واللعب على أوتارها والنفخ فيها إن اقتضى الأمر، من أجل التكسب السياسي والانتخابي . ومع ذلك تبقى أحزاب اليمين المتطرف ذات الخلفيات القومية الشوفينية والدينية المتطرفة، هي أكثر القوى الاجتماعية السياسية ميلاً وتفضيلاً واستعداداً لافتعال وتفجير واستغلال واستثمار الحساسيات الدينية والاثنية والطائفية من دون أي اكتراث للكوارث البشرية والمادية الناتجة، بالضرورة، عن مثل هذه التوجهات والممارسات الانتهازية السياسية الاجرامية المشينة . فهذه الأحزاب اليمينية المتطرفة هي تحديداً من راح ينعت مسلمي ولاية آسام ب»الغرباء« و»الأجانب« و»المهاجرين البنغلاديشيين غير الشرعيين« . وهو ترديد لذات الاتهامات التي تسوقها قبائل »بودو« الهندوسية ضد مسلمي ولاية آسام والتي تزعم أن هؤلاء تسللوا بصورة غير شرعية من بنغلاديش وتكاثروا بأعداد ضخمة حولت البودو إلى أقلية، بينما يدافع المسلمون عن أنفسهم بالقول إنهم ضحايا عقود من التهميش من جانب البودو الأقوى منهم اقتصادياً وسياسياً . وهو صراع إقطاعي مديد على تملك واستثمار الأراضي الزراعية الخصبة في الولاية .
 
وبما أن الطرفين، الهندوس والمسلمين، يشكلان »وجبة« انتخابية مغرية، فكان لابد للحزبين الرئيسيين المتناوبين على حكم البلاد في العقدين ونيف الماضيين، حزب المؤتمر ذو التوجه العلماني وحزب بهاراتيا جاناتا اليميني القومي المتطرف الذي يُتهم دائماً بالتحريض على العنف الطائفي بين الهندوس والمسلمين وبتأييده ودعمه القوي لطائفة البودو ولادعاءاتها بشأن مسلمي ولاية آسام، بينما يُتهم حزب المؤتمر الهندي بالتواطؤ في عملية استقدام المهاجرين المسلمين من بنغلاديش ليشكلوا قاعدة تصويتية داعمة له، إلا أن حزب المؤتمر يرد على هذه الاتهامات بالقول إن معظم مسلمي آسام هم مواطنون هنود .
 
والنتيجة، أن وجد مئات الآلاف من سكان ولاية آسام من المسلمين والهندوس على السواء، أنفسهم مُكَوّمين في مخيمات مؤقتة خوفاً من العودة الى منازلهم التي فروا منها بعد أن وجدوا قراهم قد سويت بالأرض وممتلكاتهم نهبت وجيرانهم يُقتلون إما رمياً بالرصاص أو ذبحاً كالنعاج .
 
ولاشك أن هذه الوقائع المريعة تشوه صورة الهند كدولة وكمجتمع متعددي الأعراق والديانات والمذاهب المتصالحة والمتجانسة بقوة ورسوخ ثقافة احترام الآخر والديمقراطية التعددية التي اختارها محررو الهند بزعامة المهاتما غاندي كخيار لبناء دولة قوية مستقرة ومتطورة . ولكن يبدو أن عبء قرون من الحكم الإسلامي للهند، والذي تمثل تحديداً في الغزو المغولي للهند وإقامة الامبراطورية المغولية على معظم الأراضي الهندية خلال الفترة من منتصف القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر والتي تقوضت بفعل التمردات الشعبية في عام ،1857 وبدء الاحتلال البريطاني للهند، مع أن الحكم الإسلامي استمر في ولاية حيدر أباد وبعض الولايات الصغيرة حتى إعلان توحد الولايات الهندية في عام ،1948 يبدو أن ذلك العبء قد عاد ليلقي بظلاله على العلاقات بين الهندوس والمسلمين في الهند . والسبب هو صعود الاتجاهات المتطرفة لدى الجانبين . حيث شهد مطلع تسعينات القرن الماضي تصعيد النبرة القومية الهندوسية المتطرفة من قبل حزب بهاراتيا جاناتا الذي فجر الصراع على نطاق واسع بعد حملته المشؤومة لهدم مسجد بابري في مدينة أيوديا بولاية أوتار براديش في عام ،1992 وهو ما أدى الى صدامات دموية بين المسلمين والهندوس راح ضحيتها قرابة الفي قتيل من الجانبين . وكان ذلك إيذاناً بالصعود المتوازي للتطرف الإسلامي وسط أحزمة البؤس والتهميش المنتشرة في ولايات آسام وأوتار براديش وبيهار في الشمال والبنغال الغربية في الشرق وكيرلا في الجنوب .
 
وكما هو ملاحظ، فإن العصبيات الدينية والعرقية والطائفية والمذهبية تبقى دائماً حاضرة، سواء في حالة كمون أو حالة نشاط، في البيئات الاجتماعية المحلية لكافة المجتمعات . وهي »برسم إشارة« أي من الساسة الموتورين لتوظيفها لمصلحته، بحكم وجودها التاريخي ورسوخها عبر الزمن . ولولا فضيلة الديمقراطية الهندية، التي حولت المسلمين الذين يشكلون 14% من سكان الهند البالع عددهم 2 .1 مليار نسمة، من مجرد رقم الى قوة انتخابية مغرية أجبرت حتى حزب اليمين القومي المتطرف بهاراتيا جاناتا في السنوات القلية الماضية على تليين خطابه المعادي للمسلمين، لكان التوظيف السياسي لهذه العصبيات قد بلغ ذراه المرعبة، ولكانت فسيفساء العصبيات الهندية قد سهلت مهمة المتطرفين في الجانبين لإشعال الفتن والصدامات المدمرة . فالديمقراطية الهندية، بهذا المعنى، تنهض صماماً للأمان ومثالاً اعتبارياً لمن يريد الاعتبار بخطورة التوظيف السياسي للعصبيات على المجتمعات المتعددة الطوائف والأعراق .