المنشور

هذا ما فعلناه بأنفسنا



الأزمة في العالم العربي ليست وليدة اليوم، وهي ليست نتاج فعل شيطاني طارىء حل علينا وأدخلنا في حالة الفوضى العارمة التي تجتاح بلداننا . فمقدمات هذه الأزمة ومظاهرها كانت جلية وواضحة ليس منذ سنوات، وإنما منذ عقود، ووجدنا تشخيصاً لها في برامج العديد من القوى السياسية والمجتمعية، وفي الدراسات النابهة للمختصين والأكاديميين، الذين حذروا من المستقبل الذي بات اليوم واقعاً نعيشه، صحيح إنه ما من سبب وحيد يتيم لما آل إليه الوضع، فهناك عوامل مختلفة، بينها قصورات قوى التغيير وعجزها البنيوي، وهناك التدخلات الخارجية والاقليمية التي تمليها مصالح الدول الأجنبية وحساباتها الأنانية، لكن السبب الجوهري كامن في الطريقة التي أديرت وتدار بها البلدان العربية .


منذ سنوات قدم عالم الاجتماع العربي المعروف حليم بركات مصفوفة صفات عن الإنسان العربي: فهو كائن عاجز، مسحوق، منفعل، مغلوب على أمره، مدجن، اعتمادي، هامشي، مسلوب من حقوقه . المناخات العامة لا تسمح للإنسان بممارسة حريته وتنمية طاقاته الإبداعية، لا تشجع على الاعتزاز بتراثه وكرامته وهويته، لا تشمخ به ولا تعتبره غاية، لا تعزز أصالته وصدقه، إنها على العكس من ذلك تعطل امكاناته وتذله، وتمنع عليه الريادة والاكتشاف وتزيف وتفقر حياته، في الصميم، وتمارس عليه العبودية والقهر، فأصبحت الخيارات نادرة أمام المواطن العربي، هذا إذا كانت موجودة أصلا، فليس أمامه إلا أن ينسحب ويعلن بصوت مرتفع نعيه الذاتي، أو أن يرضخ ويتمسك بالصبر ويمارس الرقابة الذاتية والمساومة على حياته والتنازل عن حقوقه .


مصفوفة الصفات هذه وجدت تعبيرها الأساسي، قبل التغيرات الدراماتيكية التي شهدناها ونشهدها، في انصراف الناس عن الشأن العام، والشأن السياسي خاصة، وإن كانت هذه سمة تطبع زمننا الراهن وتظهر بنسب مختلفة في المجتمعات كافة، بما فيها المجتمعات الغربية بالغة التطور، وذات التقاليد السياسية العريقة حيث يشكو الباحثون والناشطون في العمل السياسي من انحسار رقعة الاهتمامات والأنشطة السياسية عن الرأي العام، إلا أن مسببات هذه الظاهرة في المجتمعات الغربية مختلفة عن أسبابها في عالمنا العربي، فإذ تظهر الدولة هناك كفاءة ملحوظة في احتواء أو حجب التناقضات الاجتماعية الصارخة، وتضع قيوداً مشددة يضمنها القانون، على ظواهر الفساد أو التصرف غير المشروع بالمال العام، هذا إضافة الى الدور المهم الذي تقوم به وسائط »الميديا« في إشاعة جو عام من الاسترخاء والثقافة الاستهلاكية تعززها وفرة السلع وكثافة انتاجها وسهولة الحصول عليها، فإن الأمر في عالمنا العربي مختلف .


هذه اللامبالاة عندنا كانت ناجمة عن شعور عام بالاحباط واليأس والعجز عن فعل شيء يمكن أن يسهم في تغيير الأوضاع الى الأحسن، أمام سطوة بيروقراطية أجهزة الدولة واستشراء نفوذها واختراقها حتى للفضاءات الصغيرة الخاصة بكل مواطن بالطريقة التي تجعل هذا المواطن منتهكاً في أدق تفصيلات حياته، وتفقده بالتالي القدرة على المبادرة وعلى الاشتراك النشط في الحياة العامة التي تتطلب مقادير لا بد منها من الحرية ومن الشعور بالكرامة، وهما القيمتان اللتان دمرتا من روح ومن ذهن هذا المواطن العربي ليصبح عاجزاً ومشلولاً ومحبطاً وخائباً، وحين طفح الكيل بهذا المواطن، الذي جسده النموذج الصارخ للبائع التونسي محمد البوعزيزي، كان الانفجار الذي لم يكن بوسع أي قوة أن ترده . فجرى ما جرى .