المنشور

الحلم الأمريكي في مفهوم السيدة الأولى



أعاد
خطاب ميشال أوباما عقيلة الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام مؤتمر الحزب
الديمقراطي الذي عُقد في شارلوت بولاية كارولينا الشمالية مساء الثلاثاء في
الرابع من سبتمبر/أيلول ،2012 أعاد إلى الأذهان ذلكم الخطاب المتأنق
والمتألق الذي ألقاه قرينها الرئيس باراك أوباما عشية حفل تنصيبه رئيساً
للولايات المتحدة في حديقة البيت الأبيض قبل نحو أربع سنوات، والذي تميز
بالعمق والتدفق السهل الصريح والبديع لمفردات اللغة، بطبقات ونبرات صوت ذات
وقع خاص على المتلقي . فلقد أظهرت السيدة الأمريكية الأولى براعة بلاغية
وهي تلقي خطابها في مؤتمر الحزب الديمقراطي بكل رشاقة وانسيابية خطابية لم
تقل بأي حال عن براعة زوجها الخطابية . 


ذلك
في الشكل، أما في المحتوى فإن خطاب ميشال أوباما يشكل، على ما نرى ونزعم،
محاولة جريئة وصريحة، وإن كانت غير مباشرة، لدعوة الأمريكيين، وفي مقدمتهم
جميع أوساط الطبقة السياسية والنظام السياسي الأمريكي، الأساسية والطرفية،
إلى إعادة التفكير ملياً في قناعاتهم التي رسختها الميديا الأمريكية على
مدى السنوات المئتين والثلاثين الماضية في وعي الأمريكيين، بل ورسختها في
لاوعيهم الجمعي، ومفادها الأساس أن بلادهم هي أرض الذهب والأحلام التي توفر
لكل مقيم على أرضها ولكل وافد إليها فرصاً لا يكاد يحلم بها سكان الأصقاع
الأخرى من الكرة الأرضية .


ميشال
أوباما أرادت من خلال هذه الفرصة التاريخية التي لا تتاح للمرء إلا
نادراً، مخاطبة ملايين الأمريكيين المتسمرين والمتحلقين حول الشاشة الفضية،
من أبناء وبنات بلدها، وأن تصارحهم بحقيقة الحياة الأمريكية . فرغم أنها
بدأت خطابها بكيل المديح للروح الأمريكية الطيبة وقدرتها على مواجهة
الشدائد، وتعمدها تعلية نبرة الصوت عند تشديدها على لازمة »إننا نعيش في
أعظم أمة على وجه الأرض«، (والتي ستتحول مع الوقت إلى عبء ثقافي إعاقي يصعب
التخلص منه)، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى مضمون رسالة خطابها من خلال
استعراض جزء من شريط حياتها وزوجها، ساردة خلاله بعض تفاصيل »درب الآلام«
الذي عبراه قبل نجاحهما الأسري والمهني في الحياة، وقبلهما نجاح أسرتيهما،
في تنشئتهما النشأة الصالحة، وصولاً إلى ارتقاء سُلّم المجد في وقت لاحق
ومتقدم من قصة حياة نابضة بالكفاح والمعاناة وليست مفروشة بالورود كما
صورتها »الحدوتة« الأمريكية تحت مسمى مختزل وإيحائي مضلل هو الحلم
الأمريكي، وذلك في إطار التنافس الدولي على التسويق الأيديولوجي للنماذج
والخيارات التنموية لما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي غذته بتطرف
مكلف، الحرب الباردة بين الشرق والغرب .


تحدثت
ميشال أوباما عن والدها الذي كان عامل بلدية، وكان يعاني من مرض التصلب
اللوحي منذ أن كانت هي وأخوها صغيرين، وأنها كانت حتى وهي صغيرة تشعر في
كثير من الأيام بحجم المعاناة التي يعانيها، ومع ذلك فقد كانت تراه يصحو
يومياً مبتسماً ويتوجه إلى عمله من دون أن يتغيب عنه يوماً واحداً . فقد
كافح هو ووالدتها بتصميم من أجل توفير التعليم الذي يحلمان به لها ولشقيقها
. فهذه هي الرجولة بالنسبة إلى والدها، وهذا هو مقياس النجاح المتمثل في
تأمين مستوى معيشي لائق لعائلته . وتحدثت عن زوجها باراك أوباما وعن
المعاناة التي لقيها في صغره وعن كفاح أسرته لمنحه فرصة  التعليم
اللائقة . . معتبرةً أن ذلك هو جوهر إيمان أسرتها وأسرة زوجها بالعهد
الأمريكي الأساسي والمتمثل في أن الأمريكي حتى لو بدأ متواضعاً وعمل بشكل
جاد ومثابر وإنجاز ما هو مطلوب منه إنجازه، فإنه يمكن أن يبني حياة كريمة
له وحياة أفضل لأولاده . . وأن هذه هي القيم الأمريكية التي تؤمن بها هي
وزوجها ويأملان بنقلها إلى أولادهما . . وأن هذا هو جوهر الحلم الأمريكي .


فهل
هذا يعني أن »الحلم الأمريكي« كان خرافة؟ كلا بطبيعة الحال، فالولايات
المتحدة الأمريكية كانت فعلاً بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى ما قبلها،
أرضاً للفرص الواعدة بتحقيق الذات وطموحاتها، حيث كان تفوقها الاقتصادي
كاسحاً بعد الحرب (العالمية الثانية) سواء في احتياطات الذهب العالمية
(زهاء60%)، أو في الناتج الإجمالي العالمي، أو في التجارة الدولية وتصدير
رأس المال، أو أجور العمل المجزية .


ولكن
ذلك زمن قد مضى . وهذه هي الرسالة التي أرادات السيدة الأمريكية الأولى
إيصالها إلى الأمريكيين . والسؤال: هل ستصل إليهم؟ والجواب المباشر البسيط
عن هذا السؤال هو أنها بالتأكيد لن تصل، لأنها تعدّ تغريداً خارج السرب، ما
يفسر حظها المتواضع من التغطيات والاهتمامات التي تستحق . ولكن وكما يقال
فإن أول الغيث قطرة، والسيدة أوباما تجرأت وعلقت الجرس .