المنشور

تحديات القوة الاقتصادية الصاعدة لمجموعة ” بريك “



ما مدى جدية وصدقية التحليلات التي تذهب إلى أن دول مجموعة »بريك« (البرازيل، روسيا، الهند، والصين تعاني خللاً اقتصادياً، وهيكلياً تحديداً، وهو يتعلق بشيخوخة سكانها، وتحديداً أيضاً بقوة العمل غير النشطة اقتصادياً لديها، أو ما تسمى بالفئة العمرية المعتمدة على برامج الضمان والرعاية الاجتماعية، وهي الفئة العمرية من 65 سنة فما قوق .


بلاريب هو تحد حقيقي، خصوصاً بالنسبة إلى روسيا أولاً والصين ثانياً . الصين التي تحصد جزئياً بعض مما ورّثته لها سياسة تنظيم النسل الصارمة (ابن واحد لكل عائلة)، وروسيا نتيجة لانخفاض معدل الخصوبة لديها، واتساع فجوة معدل الإحلال الطبيعي بين الوفيات والولادات الجديدة، وتدهور المستويات المعيشية لدى قطاعات واسعة من الشعب الروسي بسبب التفجير الاجتماعي الهائل الذي أحدثه سقوط الاتحاد السوفييتي وتناثر وتبعثر أجزائه . يضاف إلى ذلك أن روسيا تعاني معضلة أخرى وهي نزف الأدمغة وذلك طوال عقد التسعينات من القرن الماضي، حيث جفت مصادر تمويل مراكز وبرامج الأبحاث ما نتج عنه هجرة أكثر من مئة ألف من خيرة العلماء والباحثين للعمل في الخارج حسبما أفاد بذلك »بنك كوميرسانت« الروسي في أحد تقاريره لشهر نوفمبر الماضي وذلك استناداً إلى تقديرات أكاديمية العلوم الروسية . حتى ان فلاديمير بوبوفكين مدير وكالة الفضاء الروسية أرجع سبب سقوط أجزاء من محطة ميريديان الفضائية في الثالث والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول الماضي في سيبيريا نتيجة لفشل عملية اطلاق صاروخ سويوز، أرجعها إلى تسرب قوة العمل العلمية من برامج ومراكز الأبحاث الفضائية والعلمية . وإذا أضفنا إلى ذلك أن حوالي نصف مليون عامل روسي سوف ينضمون هذا العام إلى قائمة المتقاعدين، وهو ما يعني مضاعفة عجز صندوق التقاعد بما يعادل 3% من إجمالي الناتج المحلي الروسي، فإن تأمين السوق بما يحتاجه من امدادات قوة عمل حيوية يغدو تحديا حقيقيا . وهو ما ينطبق على البرازيل (عضو مجموعة »بريك«) التي يرتفع فيها عجز صندوق التقاعد بواقع 10% سنوياً بحسب وزير الضمان الاجتماعي جاريبالدي أفيس، ما دفع الرئيسة البرازيلية دلما روسف لسن تشريع يخفض مساهمة المرافق العامة في صندوق التقاعد .


كل هذا أو معظمه صحيح، خصوصاً في ما يتعلق ببعض الأوضاع الخاصة بشيخوخة السكان خصوصاً في حالة روسيا والصين كما أشرنا . ولكن من الواضح أيضا ان هناك مبالغة في إظهار هذا الجانب على انه أكبر من عائق للنمو المستقبلي لدول »بريك«، حسبما تذهب الميديا وبعض الدوائر الاقتصادية في مؤسسات المال الغربية لحد وصف المشكلة بالكابح الذي سيلتهم أكثر من نصف متوسط معدلات النمو المرتفعة في هذه البلدان لاسيما الصين .


بل إن تكثيف التغطيات الإعلامية على هذا الجانب من الاختلال الذي هو هيكلي بلاشك نظراً لاتصاله بأحد عناصر ديناميات نمو الدورة الاقتصادية وهو هنا سوق العمل ومرونته في تأمين إمداد الاقتصادات القومية لهذه البلدان بحاجتها من قوة العمل النشطة، وغيره من جوانب ومكامن الضعف في اقتصادات بلدان »بريك«، يشي بأن ذلك عمل مقصود ويندرج في اطار الحرب الاقتصادية الباردة بين الاقتصادات المتقدمة بقيادة أمريكا والاقتصادات الصاعدة بريادة الصين . ذلك أن الدأب الإعلامي على التشكيك في مستقبل النمو في بلدان »بريك« يرمي في أحد أهدافه إلى عادة توجيه ونشر الاستثمارات العالمية المباشرة وغير المباشرة، بما يؤدي إلى انحسار حجم هذه الاستثمارات المتدفقة سنويا على هذه البلدان .


حتى رئيس إدارة الأصول في مجموعة جولدمان ساخس نفسها جيم أونيل يقر بأن الحجم الضخم لاقتصادات دول »بريك« الأربع (البرازيل، روسيا، الهند والصين) »سوف يؤمن بقاءها في وضع المهيمن الإيجابي على الاقتصاد العالمي واتجاهات نموه« . ويضيف »بأنه حتى لو تباطأ نموها فإنها ستظل تتخطى الدول المتقدمة على مدى العقود المقبلة، بما سيرفع حصتها في إجمالي الناتج العالمي إلى 40% بحلول عام ،2050 وان حجم اقتصادات الدول الأربع سوف يتخطى حجم الاقتصاد الأمريكي بحلول عام ،2015 أي بعد ثلاث سنوات من الآن .


ثم إن مشكلة الشيخوخة السكانية ليست حصرا على دول »بريك«، فخمسة من عشرة أكبر اقتصادات في العالم هي اقتصاد اليابان والمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا تندرج ضمن أكبر الدول ذات المعدل العمري العالي للاعتماد على برامج الضمان والرعاية الاجتماعية، بحيث تنوء اقتصاداتها بأثقال متطلبات الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي .


ولا ننس أن دول رأسمالية قيادية مثل فرنسا التي تواجه هي الأخرى هذه المشكلة بين سكانها الأصليين فتعوضها عن طريق الاستقدام (استقدام العمالة الرخيصة من الدول النامية خاصة الدول التي كانت فرنسا تستعمرها حتى الأمس القريب)، وتجسدت هذه المشكلة في عجز صندوق الضمان الاجتماعي عن الوفاء بالتزاماته تجاه اعداد المتقاعدين المتزايدة، فكان أن اتخذت الحكومة الفرنسية قرارا برفع سن التقاعد إلى 65 سنة بدلاً من 0_ سنة . وهو بالتأكيد أحد الخيارات المتاحة أمام دول »بريك« التي ستلجأ إليه على الأرجح ضمن حزمة إجراءات سوف تتخذها من بينها مثلا زيادة الأتمتة والمكننة وذلك بالاعتماد أكثر فأكثر على الصناعات كثيفة التكنولوجيا، خصوصاً أنها اقتصادات تتمتع بالحيوية وبقوة عمل عالية الانضباط خصوصا في ما يتعلق بالصين والهند .


ولذا فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن »المباراة« التنافسية الجارية بين الدول المتقدمة (الولايات المتحدة وحليفاتها الدول الأوروبية الغربية) وبين دول مجموعة »بريك« لن تبقى في ميدانها الاقتصادي الصرف، وإنما ستتعداه إلى الميدان السياسي . اذ ستجد الرأسماليات التقليدية نفسها غير قادرة على مجاراة فريق »بريك« اقتصاديا فتضطر لنقل »المباراة« إلى ميدان آخر هو اللعب على الحساسيات الإثنية والقومية والدينية في هذه البلدان من أجل اشغالها وتشتيت تركيزها التنموي بهدف إبطاء نموها . وهذا الخيار لن يتأخر كثيراً .