المنشور

شعبوي آخر في البيت الأبيض



الولايات
المتحدة في أزمة حقيقية بعد أن تأكد بالنتائج التراكمية لمؤشرات أدائها
الاقتصادي، تدهور موقعها العالمي على الصعيد الاقتصادي . وجاءت الأزمة
المالية التي أصابت البلاد في العام 2008 لتكشف عن حجم تلك الاختلالات التي
لم يعد النموذج الاقتصادي المعتمد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية،
يستوعب محاولات العلاج التي بُذلت حتى الآن لاستعادة زمام المبادرة
والمنافسة الاقتصادية في السوقين المحلي والعالمي .


وعلى
ذلك، فإن آخر ما تحتاج إليه الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الراهن
وفي السنوات القليلة المقبلة، هو قيادة رجل مثل ميت رومني مرشح الحزب
الجمهوري لانتخابات الرئاسة المقبلة، يحاول أن يصل إلى سدة الرئاسة تارةً
عن طريق تقريع وشتم منافسه الرئيس باراك أوباما، وتخويف وتنفير الناخب
الأمريكي منه، وتارةً ثانية عن طريق الهزء بنحو نصف الشعب الأمريكي (نسبة
ال 47% من الشعب الأمريكي التي أعطت تأييدها للرئيس أوباما في استطلاع
الرأي الذي أُجري مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الجاري) وتحقيرهم بوصمهم بالكسل
وبأنهم عالة على المجتمع، لأن تأييدهم للرئيس أوباما مبنيٌ على الامتيازات
الاجتماعية التي يتلقونها . . وتارةً ثالثة عن طريق تسييس واستغلال الدين،
وأخيراً وليس آخراً، عن طريق »التعري السياسي« أمام اللوبي الأمريكي
الصهيوني المترامي الأطراف كما هو دأب جميع مقدمي أوراق اعتمادهم للترشح
إلى انتخابات الرئاسة الأمريكية في تقديم فروض الطاعة والولاء ل»إسرائيل«،
حيث حرص في خطاب تتويجه مرشحاً رسمياً للانتخابات الرئاسية في مؤتمر الحزب
الجمهوري مساء الخميس 30 أغسطس/ آب الماضي، على التحدث عن أصله وعائلته
وكنيسته المورمونية وإيمانه بمذهب المورمون، واستنكر ما أسماه تخلي الرئيس
أوباما عن الحليفة »إسرائيل« وتخفيفه العقوبات على كوبا، وعدم نصب الصواريخ
في بولندا ضد روسيا . . واعداً بتغيير هذا الوضع وبأن »بوتين سيرى ليونة
أقل وتشدداً أكثر«! . . إلخ، من التهجمات الشخصية الرخيصة، وترداد العبارات
الاستعراضية المبتذلة التي لا تنبئ على الإطلاق بأية بشرى سارة للأمريكيين
.


فهل
هذا هو كل ما استطاعت النخبة الجمهورية الاهتداء إليه والدفع به إلى
الجمهور كخيار انتخابي يمكن التعويل عليه في تقديم حلول أكثر ابتكاراً
وفاعليةً من منافسة الرئيس أوباما للمشكلات الهيكلية الجسيمة التي تواجهها
أمريكا اليوم وغداً؟


نعم
من الواضح أن هذا هو الخيار الذي يريدونه، وهذا هو النهج الشعبوي الداخلي
والإمبريالي التوسعي الخارجي المصممون على إعادة العمل به، كما كان الحال
إبان ولايتي الرئيس السابق جورج دبليو بوش، وذلك برسم حشد رموز هذا النهج
في مؤتمر الحزب الجمهوري الذي عقد في ولاية فلوريدا الجنوبية، مثل الرئيس
السابق جورج دبليو بوش ووالده الرئيس الأسبق جورج والكر بوش وجون ماكين
وكوندوليزا رايس، الذين أعطوا دعمهم الكامل للمرشح ميت رومني في »فزعة«
جمهورية صاخبة .


قد
تؤدي صفقات تمويل الحملة الانتخابية الخيالية للمرشح الجمهوري إلى فوزه في
الانتخابات . وحينها سيعود العمل بالسياسات الاقتصادية النيوليبرالية
المتطرفة وعسكرة السياسة الخارجية، تماماً كما وعد المرشح الجمهوري، حيث
أكد »أنه سينظر في تعديل النفقات العامة، إلا أنه لن يقلص النفقات
الدفاعية« . أي أن توجيهات نظرية ميلتون فريدمان النقدية Monitorism النيوليبرالية
التي تنادي بخفض النفقات الحكومية باستثناء النفقات العسكرية، ستعود إلى
الواجهة بقوة، مخفورة من جديد، بالنزعة الحربية المنبئة بتصعيد بؤر التوتر
الدولي .


مع
أن السياسات الاقتصادية المتطرفة لليبراليين الجدد (التوصيف السوسيو
اقتصادي لأنصار المذهب النقدي الفريدماني)، أو المحافظين الجدد (توصيفهم
السياسي الأيديولوجي)، هي المسؤولة عن تحويل الفائض في الموازنة الأمريكية
العامة الذي صنعته إدارة الحزب الديمقراطي إبان ولاية الرئيس بيل كلينتون
إلى عجز هائل، وهي المسؤولة عن جبل الديون التي تفوق إجمالي ناتج البلاد
السنوي، وهي التي قادت بصورة محتمة إلى كارثة الأزمة المالية/ الاقتصادية
في العام 2008!


هذا يعني أن الجمهوريين باتوا أسرى لخزانات الأفكار      Think Tanks المعروفة
بميولها النيوليبرالية المتطرفة، وأنهم لم يعودوا قادرين على مغادرة
نسختها المتوحشة والإتيان برئيس من خارج صومعتها . . في تصميم واضح على
فرضيتها ورؤيتها بأن مقاربتها هذه تحقق المصالح الاستراتيجية للولايات
المتحدة وتعيدها إلى موقعها الريادي بين الاقتصادات العالمية، وهو ما يخالف
الواقع على الأرض . وبحسب مدير الحملة الانتخابية للرئيس أوباما، جيم
ميسينا، فإن ما عرضه الحزب الجمهوري في مؤتمر تنصيب ميت رومني مرشحاً للحزب
في انتخابات الرئاسة، وعلى لسان رومني نفسه، إنما يمثل، على حد تعبير
ميسينا »خططه الفعلية التي ستعيد بلادنا إلى الخلف« . . وأن رومني »سيحقق
خمسة تريليونات من التخفيضات الضريبية للأثرياء تدفعها عنهم الطبقات
الوسطى«!


الولايات
المتحدة ومعها العالم بأسره لا يحتملان رئيساً أمريكياً شعبوياً جديداً
(الشعبوية مذهب سياسي يتوسل الدوغما، أي التبلّد الفكري، لدغدغة عواطف
العوام وكسب تعاطفهم وتأييدهم)، أخذاً بعين الاعتبار المنعطف التاريخي
العصيب الذي يجتازانه في الوقت الراهن، فالولايات المتحدة ومعها العالم
بأسره، بحاجة إلى رجلٍ عاقل ذي بصيرة وحكمة يقوم بجردة حساب لمسيرة بلد
»باع« نفسه للعالم بشعار ساحر وبراق هو »الحلم الأمريكي« . . للوقوف على
مواطن الضعف والقوة والخطأ والصواب من أجل مساعدة بلاده ومعها العالم
لاجتياز التحديات الجسيمة التي تواجههما .