المنشور

ورَحَلَ إريك هوبْزْباوْم – محمد عبدالله محمد

طافَ عليَّ خبرٌ مبتور عبر الأثير، لم أدرِك فروة رأسه. الخبر يتحدث عن
وفاة أحد أشهر المؤرخين والفلاسفة المعاصرين. تساءلت: من الموافَى به حفرته
لوقت حِمَامِه (كما قالت بنت الأوس)؟ لكن وبعد أن عادَت ساقية الخبر مرة
أخرى، متبوعة برسالة من صديق على هاتفي الجوَّال، تبيَّن لي أن المعنِي في
الخبر الأول هو المؤرخ الإنجليزي الكبير إريك هوبْزْباوْم.

الحقيقة،
أن هذا الرجل لم يكن بالنسبة لي مؤرخاً لامعاً فقط، بل هو صديق حميم، ألتقي
به كل يوم مرتين أو ثلاث مرات تقريباً! نعم، هو ليس صديقاً لحمِياً
ومباشراً، أزوره وجهاً لوجه، فهو أولاً يكبرني بـ ثمانية وخمسين عاماً،
ويعيش في بلد يبعد عني أميالاً وأميالاً، لكن صداقتنا التي هي «من جانب
واحد»، انعقدت واستمرت من خلاله متابعتي الحثيثة لكتبه التي لا تقدَّر
بثمن، وأيضاً لشخصه ولآخر نشاطاته، التي ختمها بتأليف كتاب قبل وفاته بعام،
على رغم كهولته.

هوبْزْباوْم ليس صاحب فضل علمي على مدن فينا وبرلين
ولندن فقط، وإنما على عواصم العالَم كله؛ لأن فضله الحقيقي هو في ما أحدثه
من نهج علمي، والتزام أخلاقي بما كان يؤمن. وهو ليس عضواً في
الأكاديميتيْن البريطانية، والأميركية للفنون والعلوم، وأستاذاً في جامعة
بيربك والمدرسة الجديدة للبحوث فقط، بل هو أكبر من كل هذه الأمكنة، التي
تضيق سعتها عن سعته.

أقول هذا لأنني أدرك أن الجامعات لا ترتقي ولا
تزدهر بحيطانها ولا برفاهها، وإنما بشخوص الكادر التعليمي الذي بجوفها،
وبالمناهج الأكاديمية، والسَّمْت العلمي الذي تنتهجه. وفي الواقع، أن إريك
كان كادَراً ومَنهَجاً وسَمتاً علمياً بحد ذاته، استظلت به كل تلك المهابط
العلمية، والأكاديميات في أوربا والولايات المتحدة الأميركية، ذات الشهرة
العالية.

قد لا أتجاسر إذا قلت إن رباعيَّتِه التاريخية المرموقة
(عصر الثورة 1789 – 1848 / عصر رأس المال 1848 – 1875 / عصر الإمبراطورية
1875 – 1914 / عصر التطرُّفات 1914 – 1991) هي الزاوية الرئيسية لفهم
عالَمنا وتاريخنا وحاضرنا مستقبلنا السياسي والاقتصادي والايديولوجي.

هذه
الموسوعة، التي تصل صفحاتها إلى الثلاثة آلاف ومئة وخمسين صفحة، تحوي أهل
تفصيلات القرون الثلاثة الأخيرة. وهي القرون التي شهدت أهم الثورات
السياسية والاجتماعية في العالَم، وكذلك شهِدَت تشكُّل الاقتصاديات
الرأسمالية والشيوعية واندلاع الحروب والصراعات الايديولوجية الأكثر دموية.

إن
اقتناء مثل هذا الكتب ليس مهماً فقط، بل هو ضرورة قصوى من أجل خلق ذاكرة
نشطة، وغير مبتورة لنا جميعاً، نستطيع من خلالها إدراك الأمور كما يجب.
فالمشكلة التي نعاني منها هي أننا لا نعرف كيف أصبحنا كما نحن عليه الآن،
جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً.

إريك اختصر علينا مقطعاً زمنياً لم ندركه يمتد إلى ثلاثمئة وخمسين سنة.

ووفَّر
علينا عناء البحث والتنقيب في بطون آلاف المراجع المعتقة في خزائن
دهريَّة، عمرها يمتد إلى مئات السنين. هذا الجهد العظيم هو لا يقدَّر بمال
ولا بشكر ولا بثناء، بل قدره يكمن في أن نقرأه ونستوعبه.

أكثر ما
ميَّز هذا الرجل هو أمران: الأول: منهجه العلمي، الذي كان يمتاز بتعميق
الحدث التاريخي، عبر ضمِّ جزئيات الحدث الهامشية إلى البؤرة، ثم إحالة
الهامش والبؤرة معاً إلى فضاء الفلسفة، والربط المعرفي، وهو ما جَعَلَ من
بحوثه تجانب السَّرديَّة المحضة لصالح التفسيريات المعمَّقة للتاريخ.

عندما
كان يتحدث عن ثمانينيات القرن الثامن عشر، في كتاب «عصر الثورة»، فإنه
يُصرُّ على ذكر أن طول الفرد في إحدى مقاطعات ساحل ليغوريا يقل عن متر ونصف
المتر، وذلك لكي يشرح طبيعة الجيوش في تلك الحقبة، وكيف أنها كانت تجاهد
للبحث عن أصحاب القامات الطوال.

وفي كتابه «عصر رأس المال»، فإنه يرى
ضرورة أن يذكر، كيف أن أسمال الفرنسيين كانت عبارة عن لحى وربطات عنق
منسابة وقبعات عريضة ورايات ثلاثية الألوان، لكي يجعل القارئ في أجواء
المشتركات التي خلقتها الثورات بين الأوروبيين، ثم إحالة ذلك لشرح ظروف كل
بلد على حِدَة.

وفي كتابه «عصر الإمبراطورية»، فإنه يجادل في تعريف
البرجوازية، وآلية ارتقاء العوائل، وانتمائها التالي لأي شكل من أشكال
التعليم، وعلاقة كل ذلك بالطبقة الحاكمة، والتعريج نحو الثروات وميول
الناخبين، لكي يجعل القارئ يعيش تفصيلات تلك السنين، وما بها من تعقيدات.

وعلى
رغم أنه يتحدث عن سنين ما بعد العام 1914 في كتابه «عصر التطرُّفات» إلا
أنه يتحدث عن حرب القرم (1854 – 1856) وحرب اليابان وروسيا (1904 – 1905)
عندما يريد التدليل على فادحة الحرب الكونية الأولى، ثم حديثه عن أن هذا
النوع من الحروب الدموية ولَّد ما يُسمَّى بأدب المغامرات.

الأمر
الثاني، وهو المتعلق بشخصية هوبْزْباوْم نفسه، حيث التزامه الفكري
والأخلاقي. فعلى رغم أنه من أسرة يهودية، إلاَّ أنه شديد النقد لإسرائيل.
وقد نشَرَ رسالة في «الغارديان» مطلع يناير/ كانون الثاني من العام 2009 مع
الأديب المسرحي المرموق هارولد بينتر تدين بشدة المجازر الإسرائيلية في
غزة.

أيضاً، لم يمنعه انتماؤه الماركسي، وعضويته في الحزب الشيوعي
البريطاني، أن ينتقد التجربة الستالينية في الحكم، كونها تعبِّر عن
الاستبداد السياسي، وهو ما يخالف أصول الماركسية، التي قامت على تحرير
الشعوب من الهيمنة والديكتاتورية والنازية والعنصرية.

لقد كَسَرَ
هوبْزْباوْم وهم انتماء الطوائف والأديان إلى الحكم غير الرشيد والقمعي
الذي تتماثل معه في العقيدة، وكرَّس ثقافة أن الشعوب يجب ألا تقف مع
حكوماتها لمجرَّد أنها تنتمي إليها في المعتقد أو للهوية العرقية، لأن
المعيار ليس الدِّين ولا العرق، وإنما ميزان العدل، ووجود حكم ديمقراطي
يحترم حقوق الإنسان.

وقد كانت الهيئة المسمَّاة بـ أصوات يهودية
مستقلة تعبيراً قوياً منه على التمايز الذي أوجده هوبْزْباوْم بينه وبين
الدولة العبرية، ضارباً بمسألة الانتماء اليهودي لأسرته عرض الحائط مقارنة
مع احترام حقوق الإنسان، كون ذلك الانتماء هو شكل من أشكال الظلم، الذي يجب
أن يقف معه الرجل في كل الأحوال. وهذا الأمر هو من أهم وأنقى الصراعات
التي يخوضها المرء مع نفسه.

لقد طبَّق هوبْزْباوْم مقولة الفيلسوف الفرنسي الكبير فولتير: «لا يكون الإنسان حراً إلا عندما يَودُّ أن يكون» وقد أصاب فيها وأجاد.

محمد عبدالله محمد
صحيفة الوسط البحرينية