المنشور

كريم مروّه لـ «الراي»: الأهداف العظيمة لا تكفي وحدها لإنجاح الثورات

بيروت – من
جنى فواز الحسن:


“الرأي”
التقت مرّوه وحاورته عن كتابه “قادة
تاريخيون كبار في ثورات القرن العشرين”، والواقع الراهن للثورات العربية:


• من أين أتت
فكرة الكتاب، وما الهدف من ورائه؟


– عندما
قرّرتُ
العمل
لاصدار هذا الكتاب، كانت الثورات العربية قد بدأت في تونس وفي مصر. تحقّق أول انجاز من الأهداف التي قامت لأجلها،
وهو تجسّد في سقوط كلّ من زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر. وفي مقدّمة الكتاب، أشرتُ اجابةً
عن سؤال «لماذا هذا
الكتاب
الآن؟» الى أن الهدف من استحضار ثورات القرن العشرين الآن هو ضرورة بالنسبة الى شباب الثورات المعاصرة. ماذا أعني
بذلك؟ ببساطة، رأيت أن أقدّم لثورات الشباب الجديدة صورة عمّا آلت اليه ثورات القرن العشرين بعد قيامها
وانتصارها، وما آلت
اليه
جميعها، من ثورة أكتوبر حتى الثورة الفلسطينية الجديدة، وهو كارثي بكل المعاني. ومردّ ذلك الى أن الذين
تسلموا مهمة تحقيق أهداف الثورات، وهي أهداف عظيمة، لم يكونوا جميعهم، وبنسب متفاوتة، أمناء لأهداف تلك
الثورات، وبعضهم تحوّل
الى مستبدّ
بكل المعاني، وبعضهم أخطأ من دون أن يدرك خطأه، فقاد ثورته الى الهلاك. اذاً، كان من الضروري أن نلفت نظر
شباب الثورات المعاصرة الى أن الأهداف العظيمة وحدها لا تكفي لإنجاح الثورات.


• ما المطلوب
لإنجاح الثورات؟


– لابد في البداية أن تنشأ علاقة حقيقية بين
أهداف الثورة ووسائل تحقيقها، وبين القوى التي تكون قادرة على قيادة عملية تحقيق هذه الأهداف بأمانة وصدق،
وبقدر عالٍ من الواقعية
ومن
الاستمرار لتحقيق تلك الأهداف مرحلة اثر مرحلة. وهذه الدروس من ثورات القرن العشرين اعتقدتها ضرورية، بسبب
ثوراتنا الجديدة. 


• لماذا
اخترت الحديث عن هؤلاء
القادة
بالذات؟


– اخترت
اسماء37 قائداً لتلك الثورات، لأنني لم أشأ أن أمارس عملاً تأريخياً للأحداث، اي التأريخ لهذه الثورات، فللتأريخ
أربابه، وأنا لست
واحداً
منهم. أنا لست مؤرخاً. أنا اكتب مهموماً بقضايا الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية، الأقاليم الثلاثة التي
عبّرت عنها جميع الثورات، قديمها وحديثها. انا مهموم بهذه الشعارات الثلاثة، للتاريخ القديم والتاريخ الحديث.
ومصدر همي الأساسي
هو أنني
أحب لشعوب بلادي أن تنتصر وتتجاوز في الحاضر وفي المستقبل، أخطاء الماضي. اخترت تلك الأسماء بالتحديد لأتجاوز
الكتابة التأريخية بالواسطة، من خلال متابعة سياق هذه الشخصيات التاريخية بالنسبة للثورات. ثم انني رأيت أن
الكتابة عن القيادات
واحد اثر
الآخر تسهّل على القارئ قراءة تاريخ الثورات أكثر من قراءة نص تاريخي، كما يكتب المؤرخون.


• تحدّثت عن
أخطاء الثورات العربية. ما كان أبرزها برأيك؟


– حاولت بقدر
كبير من الدقة والموضوعية، ومن المعلومات التي قدمتها قدر استطاعتي، أن أبيّن للقارئ في شكل بسيط ومباشر، ومن
دون تعقيدات، الأسباب التي كانت تتكوّن
تدريجياً،
في تلك الثورات جميعها، والتي قادتها بعد انتصارها الى الفشل. أقدّم على ذلك بعض الأمثلة، كـ «ثورة أكتوبر»
(الشيوعية) وهي أعظم ثورة في التاريخ الحديث للبشرية، اذ انها حملت هموم البشر منذ فجر التاريخ وأحلامهم
لتحقيق الحرية للفرد
وللجماعة،
ولتحقيق التقدم لبلد معين، وتحقيق العدالة الاجتماعية التي لا يمكن أن تقوم الا مقرونة بالحرية والتقدم
الاقتصادي والاجتماعي. ثورة أكتوبر الاشتراكية هي الترجمة الأولى لمشروع ماركس، هذه التجربة التي كان لينين أول
من اقتحم مغامرة
تحقيق
أهداف مشروع ماركس باسمها. كان لينين يصيب ويخطئ ويصحح أخطاءه، لكن ستالين كان نقيضه بالكامل، اذ حوّل العمل من
أجل الثورة ومن أجل شعاراتها، الى عملية تخدم مصالحه هو كقائد مستبد ارتبطت باسمه جرائم كبيرة، تحت شعار
الثورة الاشتراكية. وهذا
ما قادت
اليه التجربة بعد أكثر من نصف قرن، بسبب الطابع الاستبدادي والشمولي للدولة الاشتراكية. 


مثل آخر،
الثورة التونسية. كان الحبيب بو رقيبة أحد قادة الثورة، لكنه تحول قائدها الوحيد. ورغم ما ارتبط به اسمه في تونس بعد
الاستقلال من انجازات،
فانه اذ
تحوّل الى حاكم مستبّد، قاد الثورة الى أن يتسلّمها مستبد آخر، وهو بن علي، أي الى فشل الثورة. 
مثل ثالث،
الثورة الفلسطينية، وقد حققت في بداياتها بقيادة منظمة التحرير، وعلى رأسها ياسر عرفات، وبمشاركة تنظيمات
فلسطينية عدة، انجازاً
كبيراً
يتمثل بتحويل القضية الفلسطينية الى واحدة من كبريات قضايا العصر، لكن الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها
قيادات الثورة، جعلتها تصل الى هذه المرحلة المأسوية من حياة الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. واعتقد
ان هذه الامثلة
الثلاث
كافية كي تعبّر عن الخلل الذي قاد ثورات القرن العشرين الى الفشل.


• كيف تستشرف مصير الثورات العربية الحالية؟


– في الفصل
الأخير من الجزء الثاني من
الكتاب،
قدمتُ قراءة موضوعية من وجهة نظري عن الثورات العربية المعاصرة، الظروف التي نشأت فيها، مسارها التاريخي
والصعوبات الموضوعية والذاتية التي واجهتها والتي ستواجهها في المستقبل. في هذه القراءة، توقفت أولا عند الطابع
العفوي الذي يشكل
الأساس في
قيامها، بمعنى أن العلاقة بين الوعي والعفوية في قيادة هذه الثورات كانت علاقة ملتبسة. ويعبر عن ذلك أن المسار
العام الذي قامت على أساسه الثورات هو
الحرية،
الكرامة الانسانية، العيش الكريم، العدالة الاجتماعية، وهي شعارات تعبر عن رفض عفوي وواعٍ في الآن ذاته لعقود
طويلة من القهر والظلم والاستبداد، وتوق عظيم للخروج الى الحرية، كمسألة أولى، رفضاً للاستبداد، كمقدمة
لنظام ديموقراطي لا اعتقد
أن شباب
هذه الثورات كانوا يدركون بوعي كامل، شكله ومحتواه وقواه. وهذا يعني أن هذه الثورات لم تكن تحمل معها ايديولوجيات
كانت في أساس ثورات القرن العشرين، بل هي حملت معها طموحا جارفا للتغيير، من دون أن تتوافر كل العناصر الضرورية
لتحقيق هذا
التغيير.
بدأت الثورات وبدأت الصعوبات معها، ولكن الأهم من كل ذلك، هو أن هذه الثورات، برغم كل الصعوبات والتعقيدات
وكل محاولات الالتفاف عليها، قد فتحت الباب على مصراعيه من أجل العبور من ماضٍ تمثّل بالاستبداد الى
مستقبل لا استبداد
فيه.


• أين
المشكلة أو الخلل؟


– المشكلة
الأساسية التي تواجهها الثورات اليوم
تنقسم الى
عدة أقسام، أبرزها قسمان: الأول هو أنّ قوى الثورة غير موحدة، حتى على الأهداف العامة، وهذه في رأيي مسألة
طبيعية في الظروف الراهنة. وعندما أتحدث عن الوحدة، لا أعني قطعاً أن يكون هناك اتفاق كامل بين مكونات
الثورة حول كل الأمور،
فمن
الطبيعي أن تكون هناك قوى متنوعة في تصورها وشكلها. ما أعنيه بالوحدة هو اتفاق بين المتعددين على الطريق الأفضل
للانتقال بأقل كلفة ممكنة من الماضي الى المستقبل، ومن الاستبداد الى الحرية. القسم الثاني يتمثّل في أن ثمّة قوى
كبيرة منظمة لا تزال
تمثل
الماضي وترتبط به وتحلم بعودته، أو قسم منها ما زال يخشى من المستقبل، حتى وهو يرغب في التحرر من الماضي. وبعض القوى
يتمثل بالتنظيمات الاسلامية التي رغم أنها كانت ضد نظام الاستبداد القديم، فانها لم تتحرر بعد من بُعدها
العقائدي الذي يجعلها
تتحول، في
حال استلمت السلطة، الى شكل من أشكال نظام الاستبداد.


وهذه
الصعوبات
موضوعية،
ولكنني أستطيع أن أجزم، وهذا رأيي، بأننا دخلنا دخولاً حقيقياً، لحقبة جديدة في تاريخنا، وتاريخ العالم، عبر
الثورات المعاصرة، رغم كل ما فيها من
التباسات.
وفي أساس هذا الاعتقاد الجازم عندي، ما شهدناه وما نشهده من رغبة جامحة عند كثرة كبيرة من الناس في البلدان
التي قامت فيها هذه الثورات، للخروج من الماضي، وحتى لو تمّ الأمر مرحلة اثر مرحلة. ولدي امثلة شديدة التعبير
في هذا السياق. المثل
الأول ما
يجري في سورية، فالشعب السوري يثبت أنه شعب عظيم، لم نكن ندرك كم هو عظيم، وهو متشبث برغم التضحيات الجسيمة
بالخروج من الماضي ومن الاستبداد، وهو سينتصر حتماً. المثل الثاني هو ما جرى في ليبيا في الانتخابات
الأخيرة، من كان يتصوّر أن
مجتمعاً
قبلياً مثل المجتمع الليبي الذي زاده تخلّفاً وتمزقاً وتعلقاً بالتقاليد شخص مجنون مثل القذافي وضع شعبه تحت
الأسر على امتداد 42 عاماً، من كان يتصور أن هذا الشعب سيخوض انتخابات ديموقراطية، حققت فيها القوى
الليبرالية واليسارية
والقومية
انجازاً كبيراً، تمثل في امتلاك الشعب القسم الأكبر من التمثيل في المؤتمر الوطني المنتخب. هذه هي قراءتي
للثورات المعاصرة.


• وماذا عن
القول أن الثورات
العربية لن
تكتمل الا مروراً بفلسطين؟


– وضع قضية
فلسطين أمام الثورات العربية
كشرط
لانتصارها هو كلام «قومجي» يحاول أصحابه أن يشككوا بهذه الثورات اليوم. صحيح أن القضية الفلسطينية هي قضية جميع
الشعوب العربية، لكنها في الأساس قضية الشعب الفلسطيني، ولكل شعب من الشعوب العربية قضية، والمطلوب منه أن
يرتبط بقضيته ويناضل
من أجلها
لتحقيق أهدافه، كمهمة أولى، والا يكون قد سقط، وسقطت معه القضية الفلسطينية، تماما كما حصل في لبنان
حيث أدّى الارتباط العضوي بين القضيتين
اللبنانية
والفلسطينية الى تقديم القضية الفلسطينية على القضية اللبنانية، وبالتالي الى انهيار كليهما. تراجعت الثورة
الفلسطينية الى واقعها المأسوي الراهن بسبب صراعات الداخل، ووقع لبنان في مأزقه الراهن الذي لا يعرف
السياسيون من الأطراف كافة
العمل
للخروج منه. بعد أن تنجز الثورات العربية الراهنة المهمات المرتبطة بأهدافها، تستطيع أن تساعد الشعب الفلسطيني بشرط
أن تكون القيادات الفلسطينية مهيأة للاتفاق في ما بينها للخروج من مأزقها، والاتفاق على طريق يقودها الى
الهدف الأساس، اي دولة
فلسطينية
مستقلة على أرض فلسطينية وعاصمتها القدس.


• ماذا عن
لبنان، ألا يجب أن
يكون
امتداد لهذه الثورات الى الداخل اللبناني؟


– لكل بلد
شروطه الخاصة، كي
تواجه قوى
التغيير فيه مهمات هذا التغيير، ولكل بلد أشكال للنضال تختارها قوى التغيير، ولا يوجد تطابق بالكامل بين
بلد وآخر، وبين ثورة وأخرى، لكن في تقديري، ان لبنان لن يكون بعيداً عن هذه الموجة من حركات التغيير، التي
تحمل اسم ثورات. ليس
بالضرورة
قطعاً ان يتخذ ذلك الشكل نفسه الذي اتخذته هذه الثورات، هنا وهناك وهنالك. أنا واثق أن مأزق الدولة الطائفية،
القائمة على المحاصصة، ومأزق القوى السياسية وبؤس ممارستها للسياسة، جميعها ستقود الى حركة غير مسبوقة من
أجل التغيير. لكنني
أرى
بواقعية أن من الصعب تحديد زمن هذه الحركة، وتحديد طبيعتها وقواها. هذا أولا، ثم انني أرى أن في طبيعة الأمور في
لبنان، أن يكون مصير بلدنا مرتبطاً بهذا الشكل أو ذاك بمصير سورية، وبهذا المعنى، فان نوعاً من الانتظار اذا
صحّ التعبير، مفروض
على القوى
التي ستقوم بحركة التغيير المشار اليها والمنتظرة مآل الامور في سورية. هناك مخاض تعبّر عنه حالات شعبية
متعددة، رافضة للنظام القائم والقوى المهيمنة عليه وعلى الدولة. ولكن هذا المخاض، كي يصل الى ولادة حركة جديدة
للتغيير، يحتاج
بالضرورة
الى قوى ذات صدقية تعبّر عنه. ولكنني لا أستطيع أن أتنبأ متى وكيف سيتبلور هذا المخاض، لكنني واثق أننا قادمون
باتجاه ذلك الزمن الذي لن يكون بعيداً