المنشور

ماذا سنفعل بتسعة تريليونات دولار؟ – د.علي فخرو

من المتوقَع أن تصل الإيرادات النفَّطية لدول مجلس التعاون الخليجي خلال
الاثنتي عشرة سنة القادمة، بأسعار البترول الحالية، إلى نحو تسعة
تريليونات (أي تسعة آلاف مليار) من الدولارات. نحن إذاً أمام ثروة مستقبلية
متدفٍّقة هائلة تستلزم طرح أسئلة تحتاج إلى الإجابة عليها في الحاضر، وليس
في المستقبل. ذلك أنه كما قال أحدهم في الماضي فإن خلف كل ثروة هائلة تكمن
الكثير من الجرائم. والمطلوب هو منع وقوع تلك الجرائم والتي يتفنَّنُ
البعض في ارتكابها حالياَ.

السؤال الأول يتعلق بالوجهة التي ستتجه
إليها فوائض تلك الثروة النفطية. إذا كان الجواب هو ما يحدث في الواقع
الحاضر فانَّ ذلك سيعني أن نحو خمسين في المئة من تلك الفوائض، في شكل
تدفقات مالية استثمارية خارجيَّة لدول المجلس، ستذهب إلى أسواق الولايات
المتحدة الأميركيَّة لتغطّي دفع ديونها ولتشغٍّل مكنة صناعاتها ومؤسَّساتها
المالية والخدمية ولتَنقص نسبة البطالة بين مواطنيها. أمَّا الالتزامات
القومية تجاه وطن وأمَّة العرب، وهما اللذان يستجديان القروض والاستثمارات
الأجنبية ويتعرَضان لكل أنواع الابتزاز الامبريالي، فلا مكان لها أو أن
العطاء العربي الشحيح هو الآخر يقدّم بثمن ابتزازي يعرفه الجميع.

السؤال
الثاني المحوري يتعلَّق بنصيب مصالح الحياة العامة من تلك الثروة قي
مجتمعات دول مجلس التعاون. تحت هذا السؤال هناك عشرات التَّساؤلات الفرعية
التي يطرحها المواطنون يوميا، ونحن مضطرُون أن ننتقي فقط بعضا منها.

لنأخذ
مثلا موضوع التربية والتعليم. في كثير من دول العالم تحدث غالبا فيه نواقص
بسبب ضعف الإمكانات المالية لدى حكوماتها. لكن في دول مجلس التعاون لن
يوجد هذا العامل السّلبي. وإذاً ما الذي سيمنع أن يوجد نظام تعليمي رسمي
يضاهي في مستواه أفضل الأنظمة العالمية؟ بالمال الوفير يمكن أن يوجد المعلم
المثقف الممتهن المدرَب تدريبا جامعيا عاليا، المكتفي ماديا، المحترم
اجتماعيا، القادر على تخريج إنسان كفوء مبدع مفكِّر ملتزم بالوطن والقيم.
ما الذي يمنع أن يكون ذلك التعليم، وبالمستوى العالي ذاك، تعليما مجانيا من
مرحلة الحضانة إلى نهاية المرحلة الجامعية؟

نحن هنا نتكلم عن تعليم
يؤدِّي إلى تغييرات جذرية في الميول والسّلوك وفهم الحياة والطُّموح
الإنساني التعاضدي والقدرات الذهنيَّة، بحيث يوجد الإنسان القادر على
المساهمة المبدعة الفاعلة في عملية تنمية شاملة إنسانية مستمرة.

إذاً، المال سيكون متوفٍّرا، فهل ستتوفَّر الإرادة السياسية وأحلام النُّهوض والسُّمو؟

لنأخذ
مثلا موضوع البطالة. إن الفوائض المالية القادرة على نقل التعليم الى
المستوى الذي وصفنا قادرة أيضا على إيجاد برامج تدريب وإعادة تدريب وتعليم
مستمر بأعلى المستويات العالمية. فاذا اجتمع ذلك التعليم مع مثل هذه
البرامج سيكون من شبه المستحيل وجود حاجة لاستيراد قوى عمل أجنبية غير
عربية لملء المراكز القيادية والفنيَّة. عند ذاك سينحصر الاستيراد في عمالة
الأعمال البسيطة كما تفعل الدول المتقدمة.

إن أنظمة حكم تصل نسبة
العمالة الأجنبية في بعض دولها إلى نحو ثمانين في المئة من مجمل قوى العمل،
ولديها كل هذه الفوائض، يجب أن تتوارى خجلا بسبب ضعف ارادتها السياسية إن
هي ارتضت وجود نسب بطالة كالتي توجد في دول مجلس التعاون.

لنأخذ مثلا
حقل الصحّة وسنرى أن ما قلناه عن التعليم والبطالة ينطبق عليه. هل يوجد
مبرٍّر واحد لعدم وجود خدمات صحية رسمية، وقائية وعلاجية، بأعلى المستويات
الدولية؟ ما المانع في أن يكون لدى هذه الدول أفضل الأطباء والممرضات
والفنييٍّن وأقدرهم من بين المواطنين؟ ما المانع في المراحل الأولى شراء
أعلى القدرات العالمية؟

الواقع أن التساؤلات نفسها يمكن طرحها
بالنسبة لتواجد مراكز الأبحاث الرَّصينة والخدمات الثقافية غير المبتذلة
والإعلام غير التجاري العولمي المسطّح أو الاستزلامي وغير ذلك كثير.

نحن
أمام إمكانية امتلاك ثروة مالية هائلة. ومع أن الكثيرين من مفكّري
الاقتصاد، منذ آدم سميث، مرورا بماركس، إلى يومنا هذا، شدّدوا على أن ثروة
الأمم الحقيقية ليست هي مقدار المال الذي تملكه وإنما مجموع قدرات أبنائها
الإبداعية والإنتاجية، إلا أننا سنخاطر بتذكير أنفسنا بقول الكاتب الفرنسي
أناتول فرانس من أن الثروة هي شيء مقدَّس في الدولة التي تدار بنظام حكم
رشيد.

وعليه فبالنسبة لنا إذا أدرنا ثروتنا المالية القادمة بكفاءة
ورشد فإننا سنحيلها عند ذاك إلى ثروة الأمم الحقيقية: قدرات رفيعة المستوى
لدى عموم المواطنين، وهؤلاء سينتجون ثروات مالية مستمرة التدفُّق بعد
انتهاء حقبة البترول.

علي محمد فخرو
صحيفة الوسط البحرينية