المنشور

زيت وماء . .



لكل ثقافة نطاق توترها في العلاقة مع الآخر، أو من الثقافات الأخرى للمزيد من الدقة .  وديناميكية
أي ثقافة تتجسد في مقدرتها على تحويل هذا النطاق من “التوتر” إلى عامل
إثراء لها، عامل إكساب وتفاعل، أخذ وعطاء، وهذا يتطلب درجة قصوى من
التوازن، من آياتها التحرر من عقدة “الآخر” بالمعنى المزودج، أي ألا يجري
النظر لهذا “الآخر” من حيث هو ثقافة، بوصفه شراً مطلقاً وخصماً تجب محاربته
ومقارعته حتى في عقر داره إذا اقتضى الأمر، وبالتالي التعاطي مع ثقافته
بوصفها خطراً يجب إقامة المصدات والحواجز والسدود في وجهها كي لا تخترق
فضاءنا الثقافي .


ومن
جهة أخرى ألا يجري استصغار الذات بوجه الثقافات الأخرى، وألا يجري النظر
إلى الذات بدونية إزاء تفوق الآخر، فالثقافة الإنسانية هي في المحصلة نتاج
حضاري لكل الأمم والشعوب والثقافات المتنوعة ولدى كل أمة ما تضيف للثقافة
الإنسانية إن هي هيأت ذاتها لشروط الفعل الثقافي الذي يستجيب لشروط العصر .


خطر
في ذهني مثل هذا التداعي وأنا أطالع دراسة لمفكر من الهند يعالج قضية
الثقافة في بلاده، الثقافة الهندية، من زاوية علاقتها مع الآخر . وهي مسألة
تعنينا في الكثير من الأوجه، خاصة في البحث عن منطقة أو نطاق التوتر الذي
عنيناه أعلاه في العلاقة مع الآخر . وبين ثقافتنا العربية الإسلامية
والثقافة الهندية العديد من مناطق التشابه، فهما ثقافتان عريقتان رغم
اختلاف منابعهما ومصادر تكوينهما الأولى، وهما في ذلك ثقافتان تنتميان إلى
ما يعرف بالعالم النامي أو “الثالث” حسب تعبيرات زمان، ولذا فإنهما تواجهان
قضايا مشتركة أو متشابهة حين يدور الحديث عن العلاقة مع عولمة الثقافة
وثقافة العولمة .


إلى
ذلك ثمة أوجه تشابه مثيرة في مظاهر الحراك الاجتماعي – الثقافي في الهند
مع مظاهرها في بلداننا العربية . إن التحديث في مراحله الأساسية في الهند
لم يؤد إلى أي انهيار جدي للبنى التقليدية، وذلك بسبب خصوصيات المجتمع
البنيوية، فالنظام الثقافي يواصل استقلاله عن النظام السياسي . فالأبنية
الدقيقة مثل الطائفة والعائلة ومجتمع القرية استقت صفتها التقليدية، وأظهرت
الكثير من قيم التقاليد الطبقية أو المستقلة درجة مثيرة للدهشة من المرونة
في تكييف ذاتها مع نظام التحديث الثقافي، بل إن بعض تلك التقاليد يزدهر
حتى مع تزايد سرعة عمليات التحديث من دون خلق تناقضات كبرى .


ويشبّه
واضع الدراسة عن الهند، وهو الدكتور كوم نارالين العلاقة في الهند بين
التقاليد والتحديث (أو التنمية كما يعبر) بالزيت والماء . إن الزيت ينساب
مع الماء، لكنه يظل على سطحه، من دون أن يختلط به، وبالمثل أياً كان الزمن،
فإن البنيان الاجتماعي الهندي سوف يواصل التفاعل مع التنمية، لكنه لن
يمتزج بها البتة . والكاتب لا يتخذ موقفاً عدمياً أو انعزالياً من العولمة
الثقافية، وذلك وفق فهم خاص للأمر . إن أجندة الثقافة الواحدة يمكنها أن
تعني هلاكاً للأمة، فالتاريخ بين تكراراً أن الحضارات الكبرى ازدهرت حيث
كان هناك تبادل ثري لثقافات متنوعة . لذا فإنه بدلاً من الانخراط في
مشروعات كبرى تثيرالاضطراب وتربك المجتمعات يتعين تبني استراتيجيات للتنمية
تتضمن رؤى تجديدية للميراث الثقافي تقدم منافع أكبر للمجتمع وتحقق
الانسجام مع الذات والتسامح مع الآخر . وفي هذا ثمة ما نتعلمه .