المنشور

هنتغتون يعود


من حيث شئنا أم لم نشأ، فإن الضجة التي أثارها ويثيرها الفيلم البذيء المسيء عن الرسول محمد (ص)، تعيد إلى أذهاننا أطروحة صموئيل هنتنغتون عن صراع الحضارات، التي توافقت زمنياً مع أطروحة فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، مما أعطى انطباعاً بأن الرجلين، هنتنجتون وفوكوياما، ينطلقان من أرضية فلسفية وسياسية وفكرية واحدة، إلا أن عيون القراء النابهين لكتابات الاثنين لا تخطئ ملاحظة الفروق الجوهرية بينهما. وهي فروق ربما ضاقت أو أخذت تضيق بالمراجعات التي قام بها فوكوياما تحديداً لأطروحته التي بشّر فيها بالانتصار الساحق لليبرالية الرأسمالية، حين لاحظ أن القيم الفلسفية والسياسية التي يتبناها الغرب ويروج لها لا تحظى بنفس الدرجة من القبول في المجتمعات الأخرى، خاصة المجتمعات العربية والإسلامية التي أولاها هنتنجتون عناية خاصة بوصفها، من وجهة نظره، رأس الحربة في المواجهة العالمية الجديدة مع الغرب، داعياً الولايات المتحدة إلى أن تكون بلداً أكثر عفوية، بمعنى أن تدرك ضعفها الحقيقي، وليس قوتها فحسب.
 
برأيه، أن ذلك أولى من أن تعتبر نفسها سيدة العالم، القادرة على تقرير مصائره منفردة متجاهلة عمق وتعدد وتنوع هذا العالم. تركز الرفض الفكري والثقافي في الغرب وخارجه على نظرية فوكاياما حول «نهاية التاريخ»، ربما لأن مسعى صاحبها لإلباسها رداءً فلسفياً وفكرياً جعل منها موضوع نقاش في الأوساط الأكاديمية والسياسية التي رأت في تبشيرها بنهاية التاريخ بصياغة مشوهة وفقيرة الدم لأطروحات سابقة في التراث الفلسفي الكلاسيكي، عند هيغل خاصة، مع ملاحظة ضآلة قامة فوكاياما إزاء المنظومة الثرية والمعقدة لهيغل. أما أطروحة هنتنغتون فقد بدت أقرب إلى الأطروحة السياسية المباشرة منها إلى التنظير الفلسفي، خاصة وأنها في الأصل ليست أكثر من مقالة للكاتب نشرت في دورية «شؤون خارجية» المتخصصة في القضايا الدولية، وفي المساجلات والمقابلات الصحفية والإعلامية معه لم يَظهر صاحب الأطروحة بالعمق الذي حاول أن يضفيه على أطروحته، التي تنحو لإبعاد النظر عن التناقض العميق في المصالح بين الشمال والجنوب وبين الكتل الاقتصادية – السياسية الكبرى عبر تقديم صراعات أخرى تنتسب إلى ما يمكن وصفه بالبنية الفوقية، أي إلى حقل الأفكار والثقافات والديانات واللغات.
 
لا يصح تفسير كل الظواهر بنظرية المؤامرة الشهيرة، خاصة مع ادراك الأوساط الأكاديمية والعلمية في الغرب أن مفهوم الإسلام يشمل أيضاً الحضارة العربية التي غيَّرت العالم ذات يوم، ولا تغفل عن أهمية الطاقات الروحية والمعنوية التي يستمدها المسلمون، عرباً كانوا أو غير عرب، من ديانتهم وتاريخهم وحضارتهم وثقافتهم، لكن المؤكد أن في دبلجة الفيلم المذكور وتعميمه تقف قوى تعرف جيداً أنها بذلك تلعب بالنار، لتشعل هذه المنطقة بصراع ديني لا يكون تجليه مواجهة مفترضة بين العرب وأمريكا، وانما بين مكونات المجتمعات العربية نفسها، خاصة بين المسيحيين والمسلمين، وبالتالي إغراق المنطقة في فوضى إضافية أوسع نطاقاً من الفوضى المدمرة التي هي فيها حالياً، مع وجود قوى محدودة الأفق ترى أن صراعنا مع الغرب هو صراع ديني، مع انه ليس كذلك.