المنشور

عن أي دور تتخلى الدولة؟



تنويعاً على حديث سابق لنا هنا عن خطورة أن تتخلى الدولة عن وسطيتها بين مكونات المجتمع، نلاحظ أنه لم يسبق أن أُخضعت الدولة، على المستوى العالمي، للنقد الذي يبلغ حد المطالبة بإقصاء دورها، أو في أحسن الحالات، بالحد منه إلى أبعد مدى، كما هو حادث اليوم، في ظل تزايد الحديث عن المبادرة الفردية والدور السحري للخصخصة التي تُصَّور كما لو كانت دواء الداء المتمثل في الركود الاقتصادي والأزمات المتتالية التي يمر بها الاقتصاد العالمي . ورغم أن بيروقراطية الدولة وبطء أدائها كانا موضوعاً للتهكم والنقد والسخرية منذ زمن بعيد، فإنّ ما يجري اليوم هو الانطلاق من ذلك للمطالبة بإبعاد الدولة عن دورها الموجه .

 
الغريب في ذلك أن الحديث لا يدور عن السطوة السياسية للدولة واختراقها للمجتمع المدني ومؤسساته، لا بل تغييب هذه المؤسسات ومصادرة أي دور مستقل لها . . إن الأمر حصراً يتركز في الحقل الاقتصادي، وفي الخدمات الاجتماعية الضرورية التي تقدمها الدولة لأبنائها في حقول الرعاية الأساسية من تعليم وتطبيب وضمان اجتماعي وخدمات ثقافية وإعانات مختلفة . وإذا ما تجاوز المرء اليوتوبيا التي صاغتها فلسفة القرن التاسع عشر عن اضمحلال محتمل لدور الدولة، فعلينا التسليم بأن الدولة، من حيث هي دور اجتماعي، تشكل أحد الإنجازات المهمة في التاريخ البشري، لأن تلك اليوتوبيا حين تنبأت باضمحلال دور الدولة، إنما كانت تراهن على قيام عدالة اجتماعية حقيقية تنفي الحاجة إلى وجود الناظم القانوني والإداري للتمييز الاجتماعي بين الطبقات، لكن ما يميز دعوات مناهضة دور الدولة في التنظير الراهن، هو مصادرة دورها كهيئة رعاية اجتماعية، في مقابل الحرص على تأكيد دورها النقيض لدور المجتمع المدني الذي يفترض التعددية السياسية والاجتماعية، ويصبح بموازاة الدولة ضامناً للتطور الصحي للمجتمعات . وتدفع التطورات والتحولات في النظام الدولي في اتجاه المغالاة في الحديث عن أفول الدولة القومية، أو الدولة  الأمة وتلاشي دورها، ومراجعة مفهوم السيادة الوطنية للدول، عبر إبرام الاتفاقات والقواعد القانونية التي تحمل الصفة الكونية، ومطلوب من التشريعات الوطنية مجاراتها وإلا فإنها ستسحق سحقاً لأنها لن تجد لها مكاناً في عالم اليوم . 


ربما وجب التفريق الواضح بين تلك المجالات التي يتعين على الدولة أن تفسح فيها المجال لدور أكبر للمبادرة الفردية، ولدور أكثر فاعلية لمؤسسات المجتمع المدني وهيئاته وشخصياته، ولاسيما في الدول النامية حيث الدولة هي المؤسسة الأقوى والأكثر جبروتاً، وقد تكون الوحيدة في بعض الحالات، حيث تنجح في احتواء التكوينات التقليدية السابقة لها وتجعلها جزءاً منها، وتتحول  أي الدولة  إلى ناطق باسمها ولكن بلغة عصرية، وبين تلك المجالات التي يتعين على الدولة أن تتمسك فيها بالدور المنوط بها، ونعني بذلك مجالات الخدمة الاجتماعية، خاصة في الحقول الحيوية كالتعليم والصحة والتنمية الاجتماعية والثقافية .

 
وقرأت مرة لعبدالرحمن اليوسفي رئيس الحكومة المغربية الأسبق، والقادم من قلب مؤسسات المجتمع المدني، من قلب المعارضة بوصفه أميناً عاماً لحزب الاتحاد الاشتراكي، تصريحاً مُهماً يؤكد فيه أهمية المهام الجوهرية للدولة كمساهم أساسي في التنمية البشرية وكمصحح للفوارق الاجتماعية، وذات مسؤوليات تجاه قضايا مستجدة كالبيئة وإدارة الموارد الطبيعية . “الدولة  بكلماته  هي الضامن للانسجام والتماسك الاجتماعي” .