المنشور

سياسة الحبل المشدود



تُذكرنا
الأجواء المتوترة المتصلة بالملف النووي الإيراني والفارضة نفسها الآن
بقوة على صدارة المشهد السياسي الشرق أوسطي، والمستولية على كامل انشغالات
وزارات الخارجية والإعلام والمالية وغيرها في المنطقة، بأجواء الحرب
الباردة بين الشرق والغرب في إحدى فترات ذروتها (فترة الرئيس الأمريكي
الأسبق جيمي كارتر الذي فتح جبهة جديدة في الصراع مع الاتحاد السوفييتي
والدول الحليفة له في القارة الأوروبية وخارجها عنوانها حقوق الإنسان، أو
الفترة الريغانية، نسبة إلى الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان الذي أوصل
العلاقات بين واشنطن وموسكو إلى حدود الصدام الذي كان سيدمر الحياة على
الكوكب الأرضي .


فمن
خلال القيام بتمرين بسيط يتمثل في حوصلة متابعات ما دار من أحداث،
وتداعيات أحداث، ومواقف على مدى فترة زمنية قياسية محددة، ولتكن شهراً
واحداً من شهور العام الجاري حصراً، أو حتى أسبوعاً واحداً، تبياناً لسعة
مساحة تكثيف وتركيز الحالة الصدامية لأطراف الصراع الصاخب والناشب بينها،
في حيز زمني ضيق، سيجد المرء المتابع لهذه الوقائع التي ستتضمن حتماً
تحركات دبلوماسية والتعبير بأشكال مختلفة، بعضها بطريقة كاريكاتيرية، عن
مواقف سياسية ملتهبة، والإعلان عن إرسال سفن حربية إلى منطقة مسرح العمليات
المحتمل، والإعلان بالمقابل عن إجراء مناورات عسكرية بالذخيرة الحية، برية
وبحرية وجوية (صاروخية)، والكشف المتعمّد عن بعض أنواع الأسلحة المستخدمة
في هذه المناورات، والقيام بعملية تدوير للكراسي الحكومية بهدف إرسال رسائل
تصعيدية كما فعل على سبيل المثال رئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين
نتنياهو حين استقطب إلى صفوف حكومته في يونيو/حزيران الماضي زعيم حزب
كاديما الجديد شاؤول موفاز الذي خلف تسيبي ليفني في شهر مارس/آذار الماضي،
وهو ما اعتُبر حينها نجاحاً باهراً لنتنياهو في تشكيل حكومة وحدة وطنية
واسعة التمثيل ومناسبة لاتخاذ قرار مصيري بحجم مهاجمة المنشآت النووية
الإيرانية، قبل أن يعود موفاز ويعلن انسحاب حزبه “كاديما” من حكومة نتنياهو
في شهر تموز/يوليو الماضي، ليقوم نتنياهو بعد ذلك باستمالة وإغراء شخصية
أخرى نافذة في حزب كاديما وتوزيرها في حكومته من أجل معاضدته مع شريكه في
عملية دق طبول الحرب وزير الدفاع إيهود باراك، في التغلب على الأصوات
المتزايدة المنتقدة لتوجهاتهما الحربية ضد إيران .


هي
إذاً، حرب يمكن أن نُوَصّفها بالحرب الباردة الصغيرة، أطرافها الأساسيون
الولايات المتحدة والدول الكبرى الرئيسة في أوروبا الغربية (بريطانيا،
فرنسا وألمانيا تحديداً) و”إسرائيل” والوكالة الدولية للطاقة الذرية من
جهة، وإيران من جهة ثانية . في حين يقف كل من روسيا والصين موقفاً هو أقرب
إلى مواقف بلدان عدم الانحياز، إنما عملاً بمبدأ ما سمي بالحياد الإيجابي  من
القضايا الدولية الخلافية بين الشرق والغرب إبان حقبة الحرب الباردة .
فالدولتان لا تتبنيان بصورة مطلقة المواقف الغربية المتشددة تجاه ملف إيران
النووي، وإنما هما تعملان من خلال ثقلهما السياسي والدبلوماسي في الوكالة
الدولية للطاقة الذرية وفي مجلس الأمن الدولي بصفتهما دولتين دائمتي
العضوية في المجلس، وفي “مجموعة 5 + 1” التي تضم الدول الخمس دائمة العضوية
في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا، على اتباع طريق الحل السلمي الدبلوماسي
لأزمة الملف النووي الإيراني، مع مجاراتهما للغرب بعض الشيء في المرات التي
يستخدم فيها الغرب “عصا” مجلس الأمن للتصويت على حزمة عقوبات دولية جديدة
ضد إيران، حيث يمتنعان عن استخدام حق النقض “الفيتو” لإحباط تلك القرارات .
علماً أن برنامج إيران النووي بدأ في الخمسينات من القرن الماضي بمساعدة
من الولايات المتحدة، وبدعم وتشجيع ومشاركة حكومات أوروبا الغربية، واستمر
التعاون حتى إسقاط شاه إيران سنة ،1979 وتم إيقاف البرنامج بعد الثورة
مؤقتاً وإعادة تشغيله مجدداً بقليل من المساعدة الغربية .


وحين
تجد الأطراف الغربية نفسها عاجزة عن دفع الإيرانيين إلى تقديم تنازلات في
المفاوضات، تلجأ إلى خيار التلويح بورقة الحرب التي تحول دون وقوعها، أسلحة
الردع لدى كل من الطرفين المتبارزين . ولذلك أصبح الطرفان رهينة مساحة
اللعب الضيقة المتبقية لديهما، وهي أخذ كل منهما الآخر إلى حافة الهاوية
المنبئة بالخطب العظيم اللائح في أفق سمائه . ونظراً إلى اضطرار طرفي “لعبة
شد الحبل” إلى تكرار هذا  السيناريو
بصورة مجترة على مدى السنوات العشر الأخيرة، وما ينطوي عليه ذلك من إمكان
فقدانهما لمصداقيتهما، فقد تمت معالجة هذه “الثغرة” من خلال “التفنن
والإبداع والابتكار” في طريقة إعادة فيلم “حافة الهاوية” .


بموازاة
ذلك يراهن الطرف الأول على مفعول تأثيرات العقوبات التي يعمل على زيادة
جرعاتها بهدف زيادة إحكام الخناق والضغط على الطرف الأول لدفعه إلى تقديم
تنازلات، فيما يراهن الطرف الثاني (إيران) على فشل نظام العقوبات ومقابلة
كل وجبة منها بخطوات تصعيدية من قبيل إجراء تجارب على أنظمة صاروخية جديدة،
أو الكشف عن منشأة نووية جديدة، أو زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي لترفيع
نسبة التخصيب، من دون الحاجة إلى تحويل الاقتصاد، في الوقت الراهن على
الأقل، إلى اقتصاد حرب، وذلك بالرهان على اكتفائه الذاتي من الغذاء .


بهذا
المعنى تبدو التسوية صعبة على الطرفين، لأنها أولاً تنطوي على تقديم
تنازلات متبادلة تبدو غير محتملة في الوقت الراهن على الأقل، (مع أهمية
الإشارة هنا إلى أن إيران كانت وافقت في نوفمبر/تشرين الثاني 2003 على وقف
تخصيب اليورانيوم والسماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش
منشآتها، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2004 أكدت إيران هذا الموقف بعد اجتماع
مع سفراء ألمانيا وبريطانيا وفرنسا لتجنب عقوبات دولية جديدة)، وثانياً لأن
أهداف “أعضاء” الفريق الأول غير متجانسة وإن تقاطعت في العناوين . ولذا
فإن تغييراً مهماً في أعلى هرم السلطة لدى أحد الطرفين أو لدى كليهما معاً
يمكن أن يُحدث “ارتجاجاً” في الحالة ال”ستاتيكية” السائدة راهناً .


وقد
يكون الاتيان برئيس جمهوري جديد في واشنطن (ميت رومني الذي اختاره
الجمهوريون الثلاثاء 28 أغسطس/آب 2012 لتمثيلهم في السباق الانتخابي
الرئاسي ضد الرئيس باراك أوباما في نوفمبر المقبل)، هو التغيير “المثالي”
الذي تحتاج إليه الحالة ال”ستاتيكية” لأزمة الملف النووي الإيراني، من حيث
إن هذا الرئيس القادم بخطاب شعبوي على ما هو ظاهر حتى الآن، سوف ينزع، على
الأرجح، إلى تغيير قواعد اللعبة!


الحرب
لها مغرياتها التي تسيل لعاب الرؤوس الحامية في بعض دوائر صناعة القرار
الأمريكي وفي “إسرائيل” بأمل الخروج منها “بصيد ثمين” . ولكن ما يغل أيدي
هذه الدوائر، هو تلك الأكلاف الباهظة لهذه “الجواهر” الثمينة، والفوز غير
المضمون بها . فمهما بلغت دقة الحسابات، إلا أن هناك دائماً هامش مخاطرة قد
يرتد خلفاً إلى ما لا تُحمد عقباه .