المنشور

صدمة النفط المقبلة




هل هناك فعلاً بوادر لصدمة نفطية مقبلة؟ . . وهل هناك بالفعل ما يبرر إطلاق مثل المخاوف والتهويلات؟


كثرت
في الآونة الأخيرة الآراء التي تحاول إشاعة مخاوف من مغبة حدوث صدمة نفطية
خلال هذا العام . وذهب البعض لتشبيه النفط أو بالأحرى الحالة التي تمر بها
أسعار النفط حالياً باليونان . “النفط هو اليونان الجديدة”، تحت هذا
العنوان جاء تقرير بنك إتش إس بي سي، وذلك في تهويل مبني على تصاعد
التوترات في المنطقة العربية وارتفاع سعر خام برميل النفط من نوع برنت
بواقع 5 دولارات دفعة واحدة في يوم واحد هو الأول من مارس/ آذار الماضي
وبلوغه 128 دولاراً .


وعلى
هذه الخلفية من المخاوف يطرح مثيروها عدة أسئلة ذات صلة من قبيل ما هي
الأسباب التي تدفع أسعار النفط للارتفاع؟ وإلى أي حد يمكن أن تصل إليه؟ وما
الآثار الناجمة حتى الآن عن ارتفاع سعر برميل النفط؟ وما حجم الضرر الذي
يمكن أن يسببه ارتفاع سعر النفط في المستقبل؟


ويعتبر
أصحاب هذا الرأي أن صدمات الإمدادات، باعتبارها السبب الأساس لارتفاع
الأسعار، تشكل مصدر الضرر الأكبر للنمو العالمي أكثر من ارتفاع الأسعار
الناجم عن وجود طلب قوي على النفط .


ولكن
ما يحدث في السوق عكس ذلك، فإن الذي دفع ويدفع أسعار النفط للارتفاع ليست
فقط التوترات في المنطقة التي تشكل شريان إمدادات النفط العالمي الأساسي،
وإنما سياسات المصارف المركزية في الولايات المتحدة واليابان وأوروبا وذلك
باتباعها سياسة توفير ما يسمى بالأموال الرخيصة من خلال ضخ السيولة والتوسع
في ما يسمى بالتسهيل الكمي أي طبع النقود لشراء السندات، أو إعطاء
الالتزام تلو الالتزام بإبقاء أسعار الفائدة المصرفية منخفضة . فهذه
الأموال المتاحة للاقتراض بتكاليف زهيدة هي التي حفزت المستثمرين وخصوصاً
المضاربين منهم على الاستثمار في ما تسمى بالأصول المتينة وخصوصاً النفط .
وهي أي تلك البنوك المركزية هي التي رفعت سقف التوقعات الإيجابية بشأن
النفط وبشأن أداء الاقتصاد الأمريكي والتقليل من شأن الهبوط الارتطامي
للاقتصاد الصيني، وذلك “لغرض في نفس يعقوب”!


ومع
ذلك يجري تعليق سبب تهويل وترويج تلك الأوساط لإشاعة “الصدمة النفطية”
المقبلة على شماعة العرض النفطي حتى ولو بدفوع شكلية ضعيفة من قبيل تقلص
الإمدادات إلى السوق النفطية نتيجة لانقطاع نحو مليون برميل بسبب الأوضاع
في السودان، وبعض الأعطال الفنية في إنتاج بحر الشمال، وتقلص إنتاج النفط
الإيراني بسبب العقوبات، وبعض مشكلات المدفوعات النفطية بين الصين وإيران .
وهذه كلها مشكلات آنية تنتمي إلى طائفة العوامل الفنية التي لا تكاد تختفي
عن خريطة تحديد سعر البرميل في أسواق النفط العالمية على مدار العام،
والتي لا توازي تأثيراتها التأثير الذي تمارسه الأساسيات الاقتصادية
المتصلة بالعرض والطلب والتي يقدر أحد الخبراء أنها مسؤولة عن مستوى 118
دولاراً للبرميل، فيما الارتفاع فوق هذا الحاجز هو الذي يعزى إلى تلك
العوامل الأخرى .


ثم
إن هذه التشككات والتهويلات من صدمة نفطية واردة تستهين بالدور المسؤول
الذي تلعبه منظمة “أوبك” في تحقيق التوازن المطلوب في السوق بين العرض
والطلب وتأمين إمدادات كافية تفيض قليلاً عن حاجة السوق للحيلولة دون حدوث
قفزات سعرية فجائية وذلك اعتماداً على بعض طاقاتها الإنتاجية الفائضة .


الحديث
عن صدمة نفطية مقبلة يفترض أن العالم لا يزال مستغرقاً في أنماطه
الإنتاجية والاستهلاكية غير المقيدة، بما في ذلك الاستهلاك المفرط للطاقة
الذي كان سائداً حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي . في حين أن الواقع يقول
غير ذلك . فلقد غيرت سياسات ترشيد استهلاك الطاقة في الدول النهمة في
استهلاك النفط خصوصاً (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان)، مع توصل
المنتجين والمستهلكين النفطيين إلى توافقات أكثر توازناً، بعض أوجه الواقع
النفطي العالمي . فالاقتصاد الأمريكي على سبيل المثال غدا أقل كثافةً في
استخدام الطاقة وأقل اعتماداً على الواردات النفطية، كما صار الأمريكيون
أكثر ميلاً لشراء السيارات ذات كفاءة الوقود العالية .


قد
تكون أوروبا أكثر انكشافاً بالنسبة لما يزعم أنه صدمة نفطية مقبلة وذلك
بسبب فرضها ضرائب عالية جداً على النفط أكبر بكثير من الولايات المتحدة،
عدا عن كون بعض بلدانها مثل اليونان وإسبانيا وحتى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا
وبريطانيا، مستوردة صافية للنفط . يضاف إلى كل ذلك أن بلدان القارة العجوز
تجتاز حالياً واحدة من أكثر مراحل نموها الاقتصادي تراجعاً . وهي بالتالي
ليست بحاجة إلى “صدمة نفطية” كي تصاب بنزلة برد قاسية، إذ تكفيها تحركات
سعر البرميل التي يقف وراءها المضاربون بما في ذلك صناديقها الاستثمارية كي
تصاب بالرشح .


وأما
على المستوى الدولي فإنه حتى بافتراض صعود سعر برميل النفط بواقع 10%
سنوياً فإن الاقتصاد العالمي ووفقاً لتقديرات مصادر عديدة قادر على استيعاب
مثل هذه النسبة المعتدلة، حيث إن تأثيرها يبقى عند حدود “حلاقة” نحو 2 .0%
من نمو إجمالي الناتج العالمي، مع التسليم بفوارق تأثيرات هذا الانتقال
السعري من بلد إلى آخر .




ولذا
فإن النفط ليس يونان جديدة كما يحاول البعض تصوير حركة أسعار سوق البترول
الدولية، حيث لا تزال آثار ارتفاع سعر برميل النفط باقية في حدود الاستيعاب
من جانب الاقتصاد العالمي . إنما إذا ما حدث شيء كبير وغير متوقع لا قدر
الله فإن ذلك بالتأكيد سيترك أثره البالغ في الاقتصاد العالمي بمجمله، ولكن
حتى هذا الأثر سيكون محدوداً بالفترة القصيرة التي سيستغرقها الحظر .