المنشور

مَنْ صَنع التغيير العربي؟



الاحتفاء
بالتغيرات العاصفة التي شهدتها وتشهدها البلدان العربية مال إلى تمجيد
الشباب، بوصفهم القوة المحركة الرئيسة للأحداث لحظة اندلاعها، وكثيراً ما
سمعنا ساسة ومثقفين عرباً، ممن اعتركوا في العمل النضالي التغييري، وأفنوا
أعمارهم فيه، وهم يرددون، بشعور مركب من الغبطة والفرح وجَلْد الذات، أن ما
عجزوا عن تحقيقه طوال عقود من أعمارهم، حققه شباب اليوم، لكن ما إن انجلت
العاصفة التي أسقطت أنظمة وبدّلت زعماء بآخرين، حتى اتضح أن ثمرة التغييرات
قطفها الكبار من القوى السياسية الأفضل تنظيماً وجاهزية، التي تملك من
وسائل التأثير والتجيير ما لا تملكه الحركات الشبابية الغضة التي تحلّقت
حول مواقع الفيس بوك وتويتر وسواها، تُرسل منها رسائل الاحتجاج والغضب،
بأسماء معروفة حيناً، وأسماء مُستعارة مبهمة في أغلب الأحيان، وحين جرت
إعادة ترتيب وتأثيث المشهد السياسي، اكتشف هؤلاء الشبان أن لا مكان فعلياً
لهم في هذا الترتيب، فبدوا كما كانوا قبل التغييرات مجرد قوة افتراضية . يوم
كانت فرنسا تعيش ربيع باريس الشهير في العام ،1968 في أثناء ثورة الطلاب
التي أجبرت الجنرال ديغول على الاستقالة، وقادت إلى “أَرْبِعة” مشابهة في
بقاع مختلفة من الأرض، قال الكاتب إدغار موران، إن الثورة كانت في أحد
وجوهها تعبيراً عن تمرد الشبان التواقين إلى الحرية . حينها ثار جدل طويل
عن مفهوم صراع الأجيال، لكنّ حججاً قوية وقفت ضد هذا المفهوم من زاوية أن
الصراع كان في جوهره تعبيراً عن تناقضات اجتماعية أعمق ليس بين الأجيال،
وإنما بين دعاة العدالة من جهة، وخصومهم من جهة أخرى .

ما
يصح على فرنسا يصح على المجتمعات الأخرى من دون استثناء، ويبدو مفهوماً أن
طاقات الشباب هي الرافعة الحيوية لدعوات التغيير، كما دلت على ذلك
التحولات العربية الأخيرة، خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان، حقيقة أن
التركيبة السكانية في البلدان النامية، خاصة، هي في أغلبها تركيبة شابة، من
حيث غلبة الشبان على سواهم ممن هم في المراحل العمرية الأخرى، وبسبب
التطورات المذهلة في المعارف والعلوم ومناهج التربية والتعليم وتأثيرات
وسائل الإعلام والاتصال، فإن لدى الأجيال الشابة قابليات أكثر للتعاطي معها
والتأثر السريع بما تضخه من مواد .

لكن
“فيس بوك” و”توتير” وسواهما من وسائل الاتصال الجماهيرية واسعة الانتشار
لا يمكن أن تخلق ثورة لم تنضج ظروفها الاجتماعية بعد، ولا يتوافر لها ميزان
قوى مجتمعي قادر على إنجاحها، كما أن دعوات التغيير ووسائله لا تنبت ولم
تنبت في صحراء جرداء، وإنما في مجتمعات تملك تقاليد سياسية ونضالية راسخة،
وكان من الإجحاف أن يجلد المناضلون من الأجيال الأسبق ذواتهم، لأنهم هرموا
في انتظار تلك اللحظة التاريخية التي أتى بها هؤلاء الشبان، فلولا تضحيات
هؤلاء المناضلين الذين هرموا في العمر، ما كان لمجتمعاتهم أن تتهيأ
للتغييرات التي شاءت الأقدار أن يكون أبناؤهم وأحفادهم هم من أطلق شرارتها .
الشباب كتلة متحركة، وشباب اليوم لن يعودوا كذلك بعد حين قصير، لا في
العمر وربما حتى في الموقف نفسه، ومكانهم سيأتي شبان آخرون آتون من
المستقبل . لذا فالتغيير يصنعه المجتمع بتحولاته الممتدة وتراكماته، وحماسة
الشباب على أهميتها، ليست سوى عامل من عوامل التغيير في لحظة أزوفه .