المنشور

القتل المُتلفز



التغطيات
الحية والمباشرة التي تردنا، عبر الفضائيات، لمشاهد القتل اليومي في مناطق
الحروب التي صار أكثر من بلد عربي مسرحاً لها خلال الشهور الماضية، تجعلنا
أمام مرأى الموت كلما شاهدنا نشرة للأخبار، أو طالعنا تقريراً مصوراً عما
يجري في البلدان المنكوبة بالحرب والاقتتال، العبثي في الكثير من حالاته .
فمشاهد الجثث الملقاة على الأرض أو تلك التي تتهاوى أمامنا برصاص القناصة،
والأشلاء الجسدية المبعثرة، تضعنا وجهاً لوجه أمام ما يمكن أن نصفه بالقتل
المتلفز، وهو غير ذاك الذي اعتدنا مشاهدته في الأفلام، لأن ذاك كان مجرد
تمثيل، بعده يعود الممثل “المقتول” لاستئناف حياته، أما ما نحن بصدده فهو
موت حقيقي، لاحياة بعده .



في
لوحة بابلو بيكاسو الشهيرة “جيرنيكا” تصوير مرعب لفكرة القتل الجماعي في
الحروب، وكانت اللوحة إدانة لبشاعة الفاشية وقبحها ودمويتها، وإدانة لفكرة
الحرب ذاتها لما يمكن أن تجره على البشر من أهوال وفواجع . كان العالم كله
قد صُعق في عام 1937 بما ارتكبه النازيون نصرة لحليفهم فرانكو في حربه ضد
الجمهوريين الأسبان، وكانت جرنيكا بمثابة العاصمة الثقافية والروحية لإقليم
الباسك الإسباني، حين قرر هتلر بالتواطؤ مع فرانكو أن يجعل من معاقبتها
عبرةً، فبالغ في تدميرها عبر القاذفات التي ألقت على المدينة الوادعة
أطناناً من القنابل مُوقعةً أعداداً هائلة من الضحايا .



كان
الألم يكاد ينطق في كل تفصيل من تفاصيل اللوحة التي تأخذنا إلى مناخ
الكارثة المهول عبر الوجوه والأعناق المشرئبة للسماء وهي تصرخ، والجثث
الملقاة على الأرض وتفاصيل أخرى نراها بارزة في اللوحة .



ويمكن أن نسأل: هل كانت لوحة الجيرنيكا ستصبح بالشهرة التي هي عليها  لو
أن الظروف التي رسم فيها بيكاسو لوحته أشبه بظروفنا اليوم؟ هل كنا سنحافظ
على نفس المقدار من الانفعال ونحن نشاهد لوحة مشابهة لفنان معاصر في وزن
بيكاسو وهو يوثق جريمة من جرائم الحرب في قانا أوصبرا أوشاتيلا أوغزة أو في
سوريا والعراق؟



إن
التطور المذهل في وسائل الاتصال قد جعلنا شهوداً على الحروب لحظة وقوعها .
فالصور التي تبث مباشرة من موقع هذه الحروب تنقل إلينا، هي الأخرى، مقدار
البشاعة والوحشية في فكرة الحرب والإبادة الجماعية وقتل الأبرياء . ولكن هل
يصل حجم انفعالنا وتأثرنا للدرجة التي تثيرها فينا لوحة بيكاسو كلما
شاهدناها، رغم أنه مضى أكثر من سبعة عقود على الجريمة موضوع اللوحة .


جيرنيكا
نتاج المخيلة أو فلنقل إنها إعادة تخيل لما حدث، أما الصورة فهي نقل حرفي
لما يجري . وفي حال القتل أو الموت الذي نشاهده عبر البث الحي فإن المنطق
يفترض أن يكون أثر الصورة أعمق وأقوى، لأننا ندرك أن اللوحة حتى وإن كانت
عناصرها واقعية فإنها نتاج مُخيلة، فيما الصورة هي الواقع ذاته نراه مرأى
العين، لكن الأغلب أن لوحة بيكاسو حفظت الذاكرة لأن الكاميرا لم تكن هناك،
أما الصورة التلفزيونية تحديداً فهي وإن نقلت، اليوم، المجازر نقلاً حياً
فإنها لتكرار ما تفعل جعلت فكرة القتل فكرة مألوفة وعادية ولا تثير ردود
الفعل الحادة . إنها تنقل بشاعة الحرب، ولكن الأبشع من ذلك هو أنها تُعود
الناس على التآلف مع البشاعة .