المنشور

صُناع الجهل

 
 
في حينه تحدث أفلاطون عما وصفه بـ «الجهل المزدوج»، قاصداً بذلك جهل من يدعي إنتاج المعرفة، فيما هو لا يقدم للآخرين سوى الجهل عينه، لأنه هو ذاته جاهل. العصر الحديث أنتج الوسائط الفعالة القادرة ليس فقط على إنتاج هذا الجهل وإنما تعميمه وتسويقه بصورة جذابة، آسرة، ساحرة، تماماً كما تُسوق السلع الأخرى من خلال «فاترينات» العرض أو من خلال الإعلان الذي يتوسل أكثر الأساليب فتنة ومتعة وجذباً.

 
وفي القرن التاسع عشر، في عام 1848 كتب تشارلز ديكنز يقول: «نسمع أحياناً كلاماً عن دعوى التعويض عن الأضرار ضد الطبيب غير الكفء الذي شوه أحد الأعضاء بدلاً من شفائه. ولكن ماذا يقال في مئات آلاف العقول التي شوهتها إلى الأبد الحماقات الحقيرة التي ادعت تكوينها؟». في ظني أن أحداً لم يسبق له أن عقد مثل هذه المقارنة وطرح هذا السؤال بكل هذه الجرأة كما فعل مؤلف «قصة مدينتين» و»ديفيد كوبرفيلد»، كأنه بهذه المقولة يحثنا على التفكير في مدى مسؤولية أولئك الذين ينتجون الجهل. الشائع أن الجاهل هو الإنسان الذي لم يتعلم في مدرسة أو جامعة ولم يتلق خبرات كافية في الحياة، ولكن هذا الفهم يبدو سطحياً وعاجزاً عن الوفاء بشروط تعريف الجهل.

 
فالجهل، هو الآخر، يُعلم، كما العلم تماماً، ومثلما يوجد معلمون يُلقِنون أو يُعَلمون الناس العلم والثقافة، فإن هناك معلمين على قدر كافٍ من الذكاء والفطنة واللؤم، مهمتهم تعليم الناس الجهل. لا يعرف الجاهل انه جاهل، ليس فقط لأنه لا يعترف به، وإنما أساساً لأنه لا يدركه ولا يعيه، ويظن أن جهله معرفة. ويتيح العصر الحديث بما يقدمه من وسائط جبارة خارقة فرصاً واسعة لإشاعة وتعميم ما درج على تسميته بالثقافة الاستهلاكية المحمولة على إمكانات غير مسبوقة، التي تحمل في ثناياها،هذا النوع من الجهل الذي يتزيا بزي المعرفة.

 
وفي الوقت الذي تكابد فيه أشكال الوعي الحقيقي المشقات كي تجد لنفسها كوة تطل منها فإن الفضاء ينفتح كاملا لذلك النوع من الوعي الزائف الذي يدخل البيوت من دون استئذان، لأننا لا نملك أن نقاومَ مقدار جاذبيته، فتقع في أحابيل بمكره لأنه يظل واعياً بما يفعل، فيما تنساق الناس إلى هاوية الجهل بإرادتهم الحرة في كثير من الأحيان، دون أن يفطنوا، إلا بعد حين، وأحياناً لا يفطنوا على الإطلاق إلى انهم ضحايا وهمٍ كبير، جرى تسويقه عبر آلية دعائية معقدة.