المنشور

التاريخ مُنطَلقاً من الهامش

عكف
الباحثون في التاريخ عادة على تتبع الأحداث الجسام التي غيّرت مجرى هذا
التاريخ من حروب وانقلابات وثورات، ولكنهم، في الغالب الأعم، يغفلون ما
نريد أن نصفه ب”هامش التاريخ” ونعني به تلك التفاصيل الكثيرة التي يبدو
غالبها ذا طابع إنساني حميم، وهي لا تقع في بؤرة الواقعة التاريخية، أي أن
الحديث لا يدور عن الحرب أو المعارك الكبرى أو الهزائم والنكبات ونيل
الاستقلال وما هو في حكم ذلك من أحداث، وإنما يدور حول جوانب تبدو بسيطة
وهامشية لو نظر إليها من زاوية الحدث التاريخي الكبير، لكنها جديرة بأن
تمنحنا فرصة كبرى للتعرف الى المرحلة التاريخية التي تعود إليها أكثر مما
تمنحنا رواية الوقائع التاريخية الكبرى .

كان
محمد عابد الجابري يفرق بين ما يدعوه التاريخ الكبير والتاريخ الصغير، في
خانة الأول يضع تلك الأحداث التي يمكن أن تستوعب في ثناياها مجموعة من
التواريخ الصغيرة، التي لا تعدو كونها، في نهاية المطاف، مجرد تفاصيل في
الحدث التاريخي الكبير، ولكن الجابري يظل، حتى في هذا التفريق، عند حدود
الوقائع السياسية، ولا يذهب إلى ما نحن بصدده هنا، وهو الوقوف على تفاصيل
صغيرة تجري على هامش الواقعة التاريخية الفاصلة، ومفردة الهامش هنا مجازية
فقط، من أجل عقد المقارنة بين الحاسم والأقل حسماً، حين يتعين علينا عند
دراسة حملة نابليون على مصر،مثلاً، ألا نكتفي بالمعارك الحربية، وإنما نذهب
إلى يوميات العلماء والأطباء والفنانين والمصورين وسواهم الذين كانوا ضمن
الحملة كي نُكون فكرة عن تفاصيل الحياة في مصر يومذاك .

ولا
يعني هذا النوع من الكتابة أن الباحث، وهو يفعل ذلك، يكون خلواً من الهدف،
وهو لا يكتفي بتقديم تلك التفاصيل تاركاً للقارئ وحده استخلاص الاستنتاجات
الضرورية حول تلك المرحلة، وإنما يقدم هو رؤيته ولكن ليس على شكل خطاب
سياسي تعبوي . فهو لا يقوم بدور الداعية، بمقدار ما يسعى لإبراز جوانب
إنسانية مغفلة، تساعد معرفتها على إضاءة زوايا مهملة في التاريخ .

لعل
هذا يفسر لنا الاهتمام الذي توليه الدراسات الحديثة لما يمكن أن ندعوه
التواريخ الفرعية، من قبيل تاريخ النساء أو تاريخ الأقليات في هذا البلد أو
ذاك، ويمتد هذا الاهتمام إلى مجالات الأدب، خاصة في الرواية، حيث نقع على
الكثير من الروايات التي تحاول أن تتبع سيرة أجيال متعاقبة من النساء، من
خلال سرد حكايات عن نساء معاصرات يستعدن سيرة أمهاتهن وجداتهن، وعلى هذا
النحو أيضاً ينتعش الاهتمام بتاريخ الأقليات في المجتمعات لتبيان المسار
المتوتر تارة، والمتسامح تارة، من علاقة المجتمعات بالأقليات المقيمة بين
ظهرانيها .

في
هذا الاهتمام بالتواريخ الفرعية نوع من رد الاعتبار لحقائق ووقائع كثيرة
غيبتها الرواية الرسمية الأحادية للتاريخ التي إما أن تكون صيغت بمنطق
ذكوري، حين يتصل الأمر بتاريخ النساء، أو بمنطق إقصائي، حين  يتصل
الأمر بتاريخ الأقليات أو المجموعات الصغيرة والمهاجرين . ومن شأن أمر مثل
هذا أن يؤكد أن كتابة التاريخ يمكن أن تنطلق من الهامش أو الجزئي بمقدار
لا يقل عن انطلاقها من المتن، أي من الواقعة التاريخية الصاخبة، فالهامش
المغفل ربما احتوى من التفاصيل التي قد تؤدي معرفتها إلى إعادة فهمنا
للتاريخ .