المنشور

تجربة تشيلي مع ملف انتهاكات حقوق الإنسان

الدول التي تزايد على ملف انتهاكات حقوق الإنسان وعلى استمرار المحاكمات
المغلقة والصورية لا يمكنها أن تستمر طويلاً على هذا المنوال، فتلك
ممارسات أثبتت فشلها ونهاية من طبقها في نظامه السياسي المعتمد على ركائز
الفساد التي سبق وأن أشرنا إليها في مقال سابق. وقد تكون تشيلي مثالاً
جيداً جراء الانتهاكات الممنهجة التي شهدتها ابان حكم ديكتاتور أميركا
اللاتينية الشهير الجنرال اوغستو بينوشيه.

لقد واجهت هذه الدولة
الصغيرة أزمة أخلاقية وإنسانية حادة امتدت من العام 1974 حتى العام 1990،
جراء استمرار الممارسات الممنهجة والقمعية ضد المجتمع التشيلي وخاصة مع
السكان الأصليين من قبل حكم الطاغية بينوشيه الذي كان مختالاً بنفسه
وبحكمه؛ الذي كان يعكس انفصاماً سياسيّاً يعتمد على إصدار قرارات لا تناقش
في ظل قمع مستمر.

لقد ساد في فترة حكم بينوشيه الذي توفي في العام
2006 نظام سياسي غير مسبوق في تاريخ تشيلي، سواء من ناحية طول فترة حكمه
أوطموحه الراديكالي وصولاً إلى وحشية القمع الذي مارسه ضد أبناء شعبه الذي
كان متعطشاً لبناء نظامه الديمقراطي المبني على العدالة وحقوق الإنسان.

لقد
كتب ألكساندر وايلد زميل رئيسي بمركز ويلسون في واشنطن في كريستيان ساينيس
مونيتور ونشرته صحيفة «الاتحاد» في (21 يناير/ كانون الثاني 2010) مقالاً
قال فيه: « في مواجهة التيار «اليميني» الذي طالما التف حول الجنرال السابق
بينوشيه، فقد كان على الائتلاف الحزبي، الذي حكم بعده أن يحكم البلاد بقدر
عال من الكفاءة والديمقراطية. وهذا ما أوفى به الائتلاف «اليساري» بالفعل،
إذ نجح في بناء مؤسسات ديمقراطية يعول عليها وتتسم بالشفافية والخضوع
للمساءلة والمحاسبة، إضافة إلى نجاحه في التخفيف من وطأة ضعف البنية
التحتية المادية والاجتماعية التي خلفتها الديكتاتورية السابقة. وعليه يمكن
القول إن أهم تركة سياسية خلفها الائتلاف «اليساري» الحاكم سابقاً، هي
تمكنه من جعل تشيلي أكثر حرية وديمقراطية وثراءً وحداثةً».

وأوضح
قائلاً: «عشرون عاماً من حكم الائتلاف «اليساري» الحاكم – خلال أربع حكومات
متتالية – أسفرت عن إحراز تقدم كبير في محو ذلك العار المخزي الذي خلفه
ماضيها الأسود. فمنذ العام 2000 أدانت المحاكم الوطنية نحو 204 من المتهمين
بجرائم حقوق الإنسان، بينما لا تزال التحقيقات مستمرة مع 325 آخرين. كما
واجه بينوشيه وحده حوالي 300 تهمة على صلة بارتكابه جرائم انتهاكات حقوق
الإنسان، والاختلاس والتهرب الضريبي حين وفاته في العام 2006. وفي الاتجاه
نفسه؛ حولت رموز القمع الوحشي ومراكز التعذيب التي كانت تستغلها طغمة
بينوشيه الحاكمة للتنكيل بالخصوم السياسيين؛ مثل «فيلا جريمالدي»، وكذلك
الجزء المخصص من مقبرة تشيلي للمقابر الجماعية، التي دفن فيها «المختفون»
دون أسماء ولا عناوين، إلى متاحف ومواقع أثرية وطنية. إلى ذلك هناك ما يزيد
على 100 موقع تذكاري على امتداد البلاد، أصبح يدل اليوم على مدى العزم
الذي أبداه الائتلاف «اليساري» الحاكم سابقاً على تأكيد عدم تكرار حدوث هذه
الممارسات القمعية الوحشية. كما أنشأت السلطات الحاكمة حينها، لجنتين
رسميتين لتقصي الحقائق في العامين 1990-1991 و2003-2004 اضطلعتا بمهمة
التوثيق الشامل لفظائع ووحشية القمع الذي مارسه نظام بينوشيه بحق
المواطنين».

وايلد رأى أنه لم يكن ممكناً إحراز هذا التقدم من دون
وجود حركة قوية للدفاع عن حقوق الإنسان في تشيلي، مع العلم أن تلك الحركة
كانت نشأت خلال أيام فحسب من انقلاب الجنرال بينوشيه في العام 1973. وعلى
امتداد سنوات الديكتاتورية كلها؛ ظلت تلك الحركة بمثابة ضمير أخلاقي حي
ورمز للمقاومة التي كان لها قصب السبق في استعادة النظام الديمقراطي
للبلاد. وكتب يقول: «وعقب التحول الديمقراطي دفعت أسر الضحايا، بمساندة
مجموعة صغيرة من المحامين العاملين في مجال حقوق الإنسان بالدعاوى القضائية
المرفوعة وحرصوا على إبقائها حية، إلى جانب ممارستهم الضغوط المستمرة على
السياسيين مطالبين إياهم بتحقيق العدالة ورفع الظلم عن الضحايا. ويعود
الفضل في ذلك الإنجاز السياسي العدلي؛ إلى جسارة القضاة الوطنيين الذين
أعادوا إلى المؤسسة القضائية استقلاليتها وهيبتها، بعد أن فشلت هذه المؤسسة
في الدفاع عن أبسط الحقوق الأساسية للمواطنين. وبسبب الأحكام العادلة التي
أصدرها هؤلاء القضاة بحق جلادي الطغمة العسكرية، التي حكمت البلاد؛ فقد
ساهم القضاة في أن تظل الجرائم التي ارتكبها الجلادون واضحة وضوح الشمس
للرأي العام التشيلي».

وللعلم فان لجنتي تقصي الحقائق، اللتين تم
تأسيسهما بمبادرة من الرئيسين باتريشيو آيلوين وريكاردو لاجوس، تمكنتا من
إرساء لبنة قوية للحقائق التاريخية. واستكملت هذه المبادرة بمؤتمر المائدة
المستديرة المختص بالدفاع عن حقوق الإنسان الذي عقده الرئيس الأسبق فراي
رويز- تاجيل.

لقد نجح التشيليون في بناء دولتهم الديمقراطية من خلال
سيطرة المؤسسة الديمقراطية المدنية على المؤسسة العسكرية وإرساء مبادىء
حقوق الإنسان ومحاسبة ومحاكمة كل من كان له يد في قمع الحريات وقتل أرواح
الناس والتنكيل بأرزاقهم… فكم يحتاج عالمنا العربي من الوقت حتى يتعلم من
تشيلي اللاتينية؟

ريم خليفة

صحيفة الوسط البحرينية