المنشور

أي مجتمع مدني نعني؟

لرأي
الأكثر جدية في مقاربة مفهوم المجتمع المدني، هو ذاك الذي يُقرنه
بالمدينة، ومؤسسات هذا المجتمع هي تلك التي ينشئها سكان المدن لتنظيم
أنشطتهم في الحقول المختلفة بشكل طوعي، وينسحبون منها، فيما لو أرادوا،
بشكل طوعي أيضاً، على خلاف الانتسابات الأخرى، القبلية والعشائرية
والمناطقية والمذهبية، التي يولد المرء منتمياً إليها، وليس من السهل عليه
التحرر منها .  ولكن  هناك
مقادير من التسطيح السائد . صار مفهوم “المجتمع المدني”، يطلق على كل شيء
غير حكومي، بصرف النظر عن طبيعة الدور الذي تؤديه المجموعة التي يطلق
عليها، حتى لو كان مُحافظاً وتقليدياً، وعلى “يمين” الدور الذي تؤديه
الدولة، على الأقل في بعض القضايا ذات الطابع الاجتماعي والثقافي، والمتصلة
بمفاهيم الحداثة وعصرنة المجتمع وحقوق المرأة، ذلك أن الدولة، أي دولة،
بوصفها تنظيماً عصرياً بالمقارنة للأشكال التقليدية السابقة لنشوئها، تعد
خطوة نوعية للأمام، من وجهة النظر التاريخية، وبالتالي لا يمكن أن نعد كل
من يعارض الدولة، بصفتها هذه، ممثلاً للمجتمع المدني، من دون التمعن في
طبيعة البرامج والأهداف والشعارات التي يطالب بها أو يدعو إليها .

المجتمع
المدني، من حيث هو مقابل للدولة، يتعين عليه أن يكون أكثر جذرية من الدولة
ذاتها في انحيازه لقيم الحداثة والتقدم والحقوق الديمقراطية، حازماً في
نضاله من أجل بناء الدولة الحديثة والعصرية، التي عليها أن تتحرر من ثقل
الولاءات والتعاضديات التقليدية السابقة لها، عبر تكريس مفهوم المواطنة
المتساوية للناس جميعاً، وإخضاعهم، على قدم المساواة، للقانون بما ينص عليه
من حقوق ومن واجبات، ونبذ كافة أشكال التمييز والمحاباة على أي من تلك
الولاءات أو الانتماءات .

يعكس
المجتمع المدني رؤية ومصالح الشرائح الحديثة من المجتمع، وهو إذ يتخذ
لنفسه موقعاً مقابلاً أو معارضاً للدولة، فإنما بهدف حملها على المزيد من
تدابير وإجراءات تجذير الممارسة الديمقراطية والشراكة مع المجتمع، في اتجاه
تطوير بنى المجتمع هيكلياً، باتجاه الحداثة وإقامة دولة القانون
والمؤسسات، النافية للولاءات السابقة لبنية الدولة، التي تعمل على النقيض
من آلياتها .

وهذا
يدعو للتفريق بين مفهوم المجتمع المدني والحركات الاجتماعية الواسعة في
عالمنا العربي، التي تبرز على شكل تيارات دينية أو مناطقية، وهي حركات
واسعة، فضفاضة، خالية من الضوابط والقواعد المؤسساتية، فهي تتحرك بإرادة
مرشد روحي أو زعيم قبيلة أو عشيرة، فيما المجتمع المدني هو في المقام الأول
مؤسسات ومنظمات وجمعيات وهيئات مستقلة لا عن الدولة وحدها، وإنما أيضاً عن
الأطر التقليدية القائمة في المجتمع، أو هكذا يجب أن تكون . ولأنها كذلك،
أو لأنها يجب أن تكون كذلك، فعلينا اشتراط صفة الحداثة فيها، بأن تكون حرة
من الكوابح التي تعيق فكرة الحداثة أو ترفضها كلية .

 وهذا
ما يمكن ملاحظته عند رصد مظاهر الحراك السياسي الاجتماعي في البلدان
العربية الذي لم تعد الأحزاب التي بشرت بفكرة الحداثة أو رفعت رايتها صاحبة
الدور الحاسم فيه، وإن دورها قد تراجع كثيراً لمصلحة قوى أخرى لا يمكن أن
نصفها بأنها جديدة، رغم حداثة انخراطها في مثل هذا النوع من النشاط
السياسي، فهي على الأرجح نوع من التقليدية الجديدة، أو التقليدية، منبعثة
في ظروف اليوم، حاملة معها خصائص هذه الظروف .