المنشور

مفارقات المجتمع المدنـي


يعكس المجتمع المدني رؤية ومصالح الشرائح الحديثة من المجتمع، وهو إذ يتخذ لنفسه موقعاً مقابلاً أو معارضاً للدولة، فإنما بهدف حملها على المزيد من تدابير وإجراءات تجذير الممارسة الديمقراطية والشراكة مع المجتمع، في اتجاه تطوير بنى المجتمع هيكليا، باتجاه الحداثة وإقامة دولة القانون والمؤسسات، النافية للولاءات السابقة لبنية الدولة، والتي تعمل على النقيض من آلياتها.
 
الرأي الأكثر جدية في مقاربة مفهوم المجتمع المدني هو ذاك الذي يُقرنه بالمدينة، ومؤسسات هذا المجتمع هي تلك التي ينشؤها سكانها لتنظيم أنشطتهم في الحقول المختلفة بشكل طوعي، وينسحبون منها، فيما لو أرادوا، بشكل طوعي أيضاً، على خلاف الانتسابات الأخرى، القبلية والعشائرية والمناطقية والمذهبية، التي يولد المرء منتمياً إليها، وليس من السهل عليه التحرر منها.
 
المجتمع المدني، من حيث هو مقابل للدولة، يتعين عليه أن يكون أكثر جذرية من الدولة ذاتها في انحيازه لقيم الحداثة والتقدم والحقوق الديمقراطية، حازماً في نضاله من أجل بناء الدولة الحديثة والعصرية، التي عليها أن تتحرر من ثقل الولاءات والتعاضديات التقليدية السابقة لها، عبر تكريس مفهوم المواطنة المتساوية للناس جميعا، وإخضاعهم، على قدم المساواة، للقانون بما ينص عليه من حقوق ومن واجبات، ونبذ كافة أشكال التمييز والمحاباة على أي من تلك الولاءات أو الانتماءات.
 
وهذا يدعو للتفريق بين مفهوم المجتمع المدني والحركات الاجتماعية الواسعة في عالمنا العربي، التي تبرز على شكل تيارات دينية أو مناطقية، وهي حركات واسعة، فضفاضة، خالية من الضوابط والقواعد المؤسساتية، فهي تتحرك بإرادة مرشد روحي أو زعيم قبيلة أو عشيرة، فيما المجتمع المدني هو في المقام الأول مؤسسات ومنظمات وجمعيات وهيئات مستقلة لا عن الدولة وحدها، وإنما أيضا عن الأطر التقليدية القائمة في المجتمع، أو هكذا يجب أن تكون. ولأنها كذلك، أو لأنها يجب أن تكون كذلك، فعلينا اشتراط صفة الحداثة فيها، بأن تكون حرة من الكوابح التي تعيق فكرة الحداثة أو ترفضها كلية. وهذا ما يمكن ملاحظته عند رصد مظاهر الحراك السياسي الاجتماعي في البلدان العربية الذي لم تعد الأحزاب التي بشرت بفكرة الحداثة أو رفعت رايتها صاحبة الدور الحاسم فيه، وان دورها قد تراجع كثيرا لمصلحة قوى أخرى لا يمكن أن نصفها بأنها جديدة، رغم حداثة انخراطها في مثل هذا النوع من النشاط السياسي، فهي على الأرجح نوع من التقليدية الجديدة، أو التقليدية، منبعثة في ظروف اليوم، حاملة معها خصائص هذه الظروف. 
 


7 أغسطس 2012