المنشور

قراءات مختلفة للعملية السياسية في لـيـبـيا


فجأة وعلى حين غرة، أعلنت المفوضية الليبية النتائج النهائية لانتخابات أول برلمان ليبي منتخب منذ سقوط نظام عائلة معمر القذافي، والتي جاءت مفاجئة بمخالفتها لكل التكهنات والتوقعات والرهانات، وذلك بتحقيق ائتلاف القوى الوطنية المحسوبة عموما على التوجهات الليبرالية بقيادة محمود جبريل القيادي في المجلس الوطني الانتقالي المظلة التي احتوت كافة مجاميع المنتفضين والثائرين على حكم القذافي. حيث أسفرت الانتخابات التي أعلنت نتيجتها مفوضية الانتخابات، كما صار معلوما، عن فوز ساحق لائتلاف محمود جبريل بحصوله على 39 مقعدا من اجمالي المقاعد الـ 80 المخصصة للقوائم الانتخابية (الأحزاب والتكتلات السياسية)، في حين حل على نحو مفاجىء حزب العدالة والبناء (اخوان مسلمين) ثانيا بسبعة عشر مقعدا فقط.
 
الغرب الذي لعب، بكلامل ماكينته الضخمة الاقتصادية والدبلوماسية والاعلامية والعسكرية، الدور الحاسم في اسقاط نظام عائلة القذافي، تقدم صفوف المهللين لهذه النتائج، من زعمائه ورؤساء حكوماته، وحتى أمين عام حلف شمال الأطلسي الدانماركي أندرس فوغ راسموسن لم يشأ أن يتأخر للتذكير في هذه المناسبة بدور حلف الناتو في تمكين الشعب الليبي من طي صفحة الدكتاتورية الفردية السوداء وفتح صفحة جديدة في تاريخه المعاصر قوامها الديمقراطية وحقوق الانسان.
 
وهذا بطبيعة الحال لا يقدح ولا يقلل أبدا من شأن النجاح الباهر الذي حققه الشعب الليبي الشقيق بقدر ما يدعو للحذر من الثمن الذي سيطلبه الغربيون من الحكم الجديد في ليبيا لقاء تخليصه من نير الدكتاتورية والذي يُخشى أن يجىء على حساب استقلال القرار الوطني الليبي، خصوصا فيما يتعلق بالاستثمار الوطني المستقل لثروات البلاد النفطية والغازية والتعدينية عموما، وكذلك بالموقف العربي المبدئي التضامني من قضية الشعب العربي الفلسطيني المغتصبة أراضيه وحقوقه من قبل الدولة الصهيونية المحمية من أولئك الغربيين.
 
الآن وفيما يتعلق بنتائج الانتخابات النيابية الليبية والتي صبت – على نحو مفاجىء كما أسلفنا –  في الاتجاه المعاكس، فاننا لا نروم الظهور بمظهر المتشائمين من المشهد الليبي العام ما بعد سقوط نظام عائلة القذافي، وانما نتيجة الانتخابات تستدعي التساؤل الحذر في ضوء جملة المعطيات المتيسرة بشأن المكون المدني، والحالة المدنية بصفة عامة، في المجتمع الليبي.. ناهيك عن الأبعاد الثقافية والنفسية للمجتع الليبي ذي التوليفة القبلية المحكومة بعصبيات جهوية وأواصر قربى عشائرية حرص النظام السابق أشد الحرص على ابقائها في مرحلتها ما قبل الحداثة. ناهيك عن العزلة الحضارية الطويلة التي عاشها المجتمع الليبي على مدى أكثر من أربعة عقود بسبب ممارسات ونزوات النظام الكاريكاتوري الذي فرضه رئيس ليبيا الراحل معمر القذافي قسرا على الشعب الليبي التواق للحرية.
 
ولا ننسَ المناخ الذي جرت فيه الانتخابات، وهو مناخ أقل ما يوصف به انه غير طبيعي، من حيث انتشار السلاح وغياب الأمن وعدم انتظام وتعافي مؤسسات الدولة الرسمية من آثار الحرب الاهلية، والخطابات التحريضية والتحشيدية التي أطلقها الاسلاميون لتخويف الناخبين الليبيين من التحالف الليبرالي واتهامهم اياه بأنه تحالف للعلمانيين الكفرة، والتي توجها مفتي الديار الليبية بفتواه الشهيرة التي حرم فيها التصويت لحزب “علماني كافر”، والتي – ويا للغرابة لم تجد لها آذانا صاغية حتى في الدئرة التي انطلقت منها وهي الدائرة الانتخابية الأولى (طبرق – القبة – درنة) التي تعد مركز الاسلاميين ومعقلهم، ومع ذلك نجح تحالف محمود جبريل في الفوز بأربعة مقاعد من مقاعدها الخمسة !
 
ولعل الأمر الأكثر اثارة هو ذلك المتصل بالتحليل التعليلي للفوز الكاسح لتكتل الليبراليين بقيادة محمود جبريل الذي تناقلته باطمئنان وكالات الأنباء، والذاهب زعما بأن مؤسسات المجتمع المدني في ليبيا (!) هي التي شكلت الرافعة الأساسية التي اعتمد عليها جبريل في دعم حملته الانتخابية وانها كانت وراء انتصار ائتلافه الليبرالي الكاسح !
 
أولم نقل ان نتيجة الانتخابات الليبية مفاجِئة بكل المقاييس !
 
ولكن مهلا، فاذا كان ما يسمى بتكتل الليبراليين قد حسم مسألة فوزه بالنسبة للثمانين مقعدا من مقاعد المؤتمر الوطني العام المخصصة للقوائم الانتخابية، الذي سيختار رئيسا للحكومة وسن التشريعات والاعداد لانتخابات جديدة بعد كتابة دستور جديد العام المقبل، فان المقاعد المائة والعشرين المتبقية والمخصصة للمستقلين مازال أمرها غامضا بغموض انتماءات وولاءات هؤلاء المستقلين. فمع ان هؤلاء هم عبارة عن خليط غير متجانس من المحامين ورجال الأعمال والنشطاء والمعارضين السابقين لمعمر القذافي، الا أن تصريح زعيم حزب العدالة والبناء محمد صوان بأن 19 مستقلا متحالفون مع حزبه – حيث فضل عدد كبير من المرشحين المحسوبين على التيار الاسلامي النزول على قوائم المستقلين لزيادة حظوظهم في الفوز – يفتح الباب على قراءات أخرى مغايرة للنتيجة الرسمية المعلنة للانتخابات !
 
ثم انه وبخلاف الحضور الطاغي للاسلاميين في مؤسسات الدولة الليبية ما بعد سقوط القذافي، والذي أملته ملابسات وتداعيات الحدث كله، فان محمود جبريل الحداثي الدارس في الولايات المتحدة، سوف يواجه صعوبة ذات مستويين، الأولى وتتعلق بتأمين استمرار الشراكة داخل التحالف الذي شكله والذي يضم أكثر من 70 حزبا متباينة المصالح والانتماءات السياسية، والثانية تتعلق بتأمين الثلثين في المؤتمر الوطني العام من أجل تمرير واقرار القرارات المهمة.