المنشور

حصاد المدينة العربية المأزومة



لفهم طبيعة التحولات التي جرت وتجري في البلدان العربية، يتعين الوقوف على التحولات الديموغرافية التي شهدتها المدينة العربية في العقود الماضية، ولكي نقرب هذه الفكرة علينا أن نتذكر أن مدينة القاهرة، كبرى المدن العربية وأهمها، التي يبلغ عدد من تحتويهم في أحشائها خلال ساعات النهار نحو عشرين مليون نسمة، وفي الليل نحو اثني عشر مليوناً، هم السكان المقيمون فيها، لم يزد عدد سكانها في أوائل القرن العشرين على نصف مليون شخص، ولأن الأمور تؤخذ بنسبيتها فإن ما يصح على القاهرة يصح على الإسكندرية وعلى عواصم ومدن عربية أخرى، فمعدلات النمو السائد أدى إلى أن المدن الكبرى تنحو المنحى نفسه .

دراسات رصينة تذهب إلى أن ما يتراوح بين 70% إلى 80% من سكان العالم العربي هم سكان المدن، وإذا كانت هذه الزيادات نتيجة لأزمة التشكيلات السابقة للرأسمالية ما دفع قُدماً بدور العاصمة كمركز للنشاط السياسي والاقتصادي والإداري، وأدى لتدهور الحرف التي تخصصت بها بعض البلدات، وبالتالي هجرة أبنائها إلى العاصمة، فإن مؤسسة الخدمة العسكرية الإلزامية لعبت دوراً مهماً في “ترييف” المدينة، ذلك أن قوة العمل الجديدة أخذت تمر بهذه المؤسسة، وبعد أن تقضي فترة من حياتها في العاصمة أو المدينة فإن جزءاً كبيراً منها يرفض العودة بعد أن يألف حياة المدينة، حتى وإن كانت هذه الأخيرة ستؤدي إلى سحقه وتهميشه وتهشيمه .

صحيح أن المدينة حتى من دون الهجرة من الريف إليها منقسمة اجتماعياً بين أقلية مترفة وأكثرية فقيرة، لكن “ترييف” المدينة من خلال النازحين إليها أدى إلى نشوء تمايز حاد بين سكان المدينة الأصليين وبين النازحين إليها، والذين لم تكن هذه المدينة المأزومة أصلاً قادرة على أن تستوعبهم وتدمجهم في قطاعاتها الحديثة، فكان أن حولتهم إلى جيش من العاطلين السافرين أو المقنعين، ونشأت، حول العواصم والمدن، أحزمة الفقر التي تفتقد الشروط الدنيا من الخدمات اللازمة للعيش .

ستشكل الأجيال الجديدة من أبناء هذه الأحزمة وقوداً للحركات الاحتجاجية الرافضة، التي تفتقد إلى برامج التحديث الحقيقي، كونها نتاج مجتمعات غير مدينية في الأساس، وهي لن تنخرط في بناء مؤسسات المجتمع المدني الحديث، فهذه الأخيرة هي، في الأصل والجوهر، نتاج المدينة، وهي بمثابة الأطر أو الهياكل التي من خلالها تنظم النخب السياسية والثقافية وسواها أنشطتها، وبالنظر إلى أن المدينة باتت محاصرة بأحزمة الوافدين إليها، فإن تلك المؤسسات ظلت في حيزها النخبوي المحدود، رغم ما يتمتع به القائمون عليها من وعي وخبرة، وإذا كانت هذه النخب هي من أطلق شرارة التغيير في البلدان العربية المعنية، فإنها وجدت نفسها أقلية وسط الطوفان الشعبي الغاضب، الآتي من جذور غير مدينية، والذي وجد ملاذه في التيارات الإسلاموية، الأكثر مقدرة على الاستقطاب بحكم “بساطة” الخطاب الذي تطرحه، وبحكم ما تتوفر عليه من إمكانات مالية ضخمة ساعدتها على توسل العمل الخيري وسيلة للكسب السياسي .

حين أزفت ساعة الوقوف أمام صندوق الاقتراع بعد المتغيرات العربية، كان منطقياً أن تحصد هذه القوى أغلبية الأصوات، لأن مسار التطور السياسي  الاجتماعي المشوه في المجتمعات العربية، وفي عواصمها ومدنها الكبرى المأزومة، ما كان له إلا أن يفرز مثل هذه الظاهرة .