المنشور

حال الديمقراطية

تُعيد
مخرجات الانتخابات التي جرت في البلدان العربية التي طالتها التغييرات،
السؤال الإشكالي عن مفهوم الديمقراطية ومغزاها، وهو سؤال فلسفي قديم وعميق:
هل يتعين علينا القبول بالديمقراطية إذا ما أتاحت إحدى أهم آلياتها، أي
الانتخابات، فوز قوىً يُمكن أن تشكل خطراً على الفكرة الديمقراطية ذاتها،
من حيث هي احترام للتعددية بكافة مظاهرها: الاجتماعية والثقافية والدينية،
وبالتأكيد السياسية؟ هل تكف الديمقراطية عن أن تكون ديمقراطية، حين تسمح
الانتخابات بتمكين من هم غير ديمقراطيين ولديهم الاستعداد والرغبة في
اضطهاد الأقليات وحمل المجتمع على التسليم قسراً بفكر أو سلوك معينين لا
يستقيمان مع كل الأهواء، حتى وإن كانا يصادفان هوىً لدى من كسبوا
الانتخابات؟

ليست
كل القرارات التي تتخذها الأغلبية قرارات ديمقراطية . حتى لو كانت هذه
الأغلبية وصلت الى موقع القرار بالآليات الديمقراطية . علينا، هنا، أن
نتذكر أن هتلر وصل إلى السلطة في ثلاثينات القرن العشرين عبر الانتخابات
محمولاً على موجة دعم شعبي جارف، لذا لا بد من إيجاد الآليات التي تحول دون
أن تسطو هذه الأغلبية على حقوق الأقليات العرقية أو الدينية أو السياسية،
أو إملاء نسق أحادي للتفكير والمعيش على الناس .

صعوبات
الديمقراطية و”مخاطرها” يجب ألا تُعلي من شأن الرأي الذي يخشى المتغيرات
خوفاً من أن تأتي بالأسوأ، فالديمقراطية، رغم عيوبها ونواقصها هي أقل
الأنظمة سوءاً وضرراً، وحسب أوكتافيو باث، فإن “الديمقراطية ليست هي
المطلق، كما أنها ليست تصوراً مستقبلياً نهائياً، ولكنها منهجية تسمح للناس
بأن يعيشوا معاً بطريقة متحضرة وصون الجميع للحقوق الفردية ودفاعهم عنها”،
وهي إن دفعت إلى الصدارة بقوى غير ديمقراطية، فإن العيب ليس فيها، وإنما
في حقيقة أن المجتمع لم ينضج كفاية، بما يتيح له الاستخدام الأمثل لآليات
الديمقراطية في اختيار الأنسب من وجهة نظر التطور التاريخي والمجتمعي . ومن
هنا أهمية وجود نظام للتوازن والرقابة، يضمن في ما يضمن، استقلال القضاء،
ويوفر الحماية لضغط المجتمع المدني والرأي العام .

حتى
في البلدان ذات التقاليد الديمقراطية العريقة يحدث أن يأتي إلى موقع
القرار من هو ليس أهلاً له، ولكن ميزة الديمقراطية أنها تتوافر على آليات
استدراك خطأ اختيار الناس، عبر الصندوق السحري للاقتراع الذي يحول دون
استمرار الخطأ، ولنتذكر هنا المثل القريب جداً في فرنسا، حين كفر الفرنسيون
عن خطئهم باختيار نيكولا ساركوزي رئيساً لهم، بعدم منحه فرصة ثانية للمكوث
في “الإليزيه” .

التغيير
في ظروف الاستبداد، هذا إذا توافرت ظروفه، وهو أمر لا يحدث كثيراً، يُكلّف
عُنفاً وإراقة دماء وربما حروباً أهلية، وها نحن شهود على ذلك، أما في
ظروف الديمقراطية فيكفي المكوث ساعة أو ساعتين في طابور الاقتراع، لإحداث
التغيير المطلوب، باختيار البديل .
الديمقراطية
بناء متواصل يحتاج إلى وقت وتراكم للخبرة، وليس شرطاً أن تعطي الديمقراطية
أكُلهَا بين عَشيّةٍ وضحاها، ولكي يتم ذلك يجب أن يتأمن استمرار ديناميات
النقد، بما في ذلك النقد لمخرجات الديمقراطية ذاتها، صَبواً إلى مخرجات
أفضل، وتحفيزاً للمجتمعات إلى اختيار هذا الأفضل، عبر كشف عثرات وعيوب
ونواقص المتاح، فالديمقراطية لا تنحصر في احترام مخرجاتها الآنية، وإنما
أساساً في تأمين حق وحرية نقد هذه المخرجات .