المنشور

الاحتجاج يتحول إلى سلطة ثانية في البلاد

تجددت الحركة الاحتجاجية في شيلي وتنوعت خلال الأسابيع الأخيرة، ويكاد لا
يمر يوم دون أن تشهد البلاد تظاهرة أو نشاطا احتجاجيا يتناول قضية
اقتصادية أو اجتماعية حارقة، ففي الثاني عشر من تموز الجاري، وبمناسبة
الذكرى الحادية والأربعين لتأميم صناعة النحاس، في عهد حكومة الوحدة
الشعبية اليسارية بزعامة “سلفادور اليندي”، دعت النقابات العمالية واتحادات
الطلبة والتلاميذ إلى تظاهرة حاشدة رفعوا فيها شعارات تطالب بإعادة تأميم
صناعة النحاس، والكف عن خصخصة استخراج وتصنيع مواد الخام الأخرى. وشدد
المتظاهرون على إمكانية توظيف الأموال التي توفرها عمليات التأميم لتطوير
قطاع التعليم وتمويل البرامج الاجتماعية المختلفة.
وفي الأيام اللاحقة حاصر العاملون في شركة الاتصالات خطوط المترو وتقاطع
الطرق الرئيسة للمطالبة برفع أجورهم وتحسين ظروف حياتهم المعيشية.
وتظاهر
آلاف الصيادين في مختلف المدن الشيلية، وعمدوا إلى قطع الشوارع ونصب
الحواجز في الشوارع، وإشعال النار في إطارات السيارات، احتجاجا على قانون
الصيد الجديد، الذي يجري تمريره في البرلمان. وقام المئات من الصيادين
باحتلال مركز إدارة محافظة “آراوكو” المطالبة بإطلاق سراح زملائهم
المعتقلين. ويسمح مشروع القانون الجديد بمنح شركات الصيد الكبيرة امتيازاً
لمدة 20 عاما، ولا يأخذ المشروع بنظر الاعتبار مصير 120 ألف عائلة تعيش على
الصيد في المنطقة المشمولة بالامتياز، ويذكر إن لجنة قوانين الصيد في
البرلمان قد مررت مشروع القانون. وتنوي اللجنة الوطنية للدفاع عن الصيادين،
التي تمثل 50 ألف صياد، الاستمرار بالحركة الاحتجاجية، وعلى مستويات
مختلفة إلى حين تحقيق مطالبها.
الحركة الاحتجاجية تتحول إلى سلطة ثانية
في إطار تحليله لتطور الحركات
الاجتماعية والمتغيرات السياسية، يقول المؤرخ والأكاديمي اليساري المخضرم
“جبرائيل سالازار” في مقابلة أجرتها معه جريدة “نيوز دويجلاند” “المانيا
الجديدة”: لقد استطاع الطلاب تنفيذ عملية ناضجة وقالوا بوضوح إننا جموع
غفيرة ونريد نظاما تعليميا مختلفا، وفي البداية لم تكن الحركة الطلابية
تملك مشروع بديل ملموس، ولكنهم استطاعوا في الأشهر الأخير تقديم مقترحات
وخطط لإصلاح النظام الضريبي بغية تمويل إصلاح النظام التعليمي، وفي نفس
الوقت عملوا على تعزيز علاقاتهم مع نشطاء الحركات الاجتماعية الأخرى مثل
ممثلي تلاميذ المدارس وممثلي طلبة جامعات القطاع الخاص، ويبدو المستقبل
واعدا.
وفي سياق تناوله لأسباب هذا التفاؤل يقول “سالازار”، الذي كان عضواً في
حركة التيار الثوري اليساري الراديكالي في الفترة 1970 – 1973: الحركة لا
تمارس الاحتجاج فقط وإنما تضع البدائل على طاولة الحوار وتمارس ضغطا محسوسا
على الحكومة، وتمتاز الحركة بالجذرية واستقلالية نشطائها، وبمشاركة حقيقية
لقواعدها في اتخاذ القرار، أي أن الحركة تجذر الديمقراطية في صفوفها.
ولذا تبدو في عيون نقادها أكثر تطرفا من الحركات في عقدي الستينيات
والسبعينيات من القرن الماضي، ولدى الجميع وضوحاً كامل بضرورة تجديد اتحاد
النقابات العمالية، لأن زعماء الاتحاد يعانون العزلة ويحصرون ولاءهم
بالأحزاب السياسية بعيدا عن القواعد الاجتماعية الواسعة في زمن يريد الناس
بناء وطنهم بأنفسهم.
ويبدد “سالازار” المخاوف المرتبطة بتحالف النخبة الحاكمة مع الجيش
وشراستها في الدفاع عن مصالحها قائلا: لقد هزم الجيش رغبة الناس في
الديمقراطية 23 مرة ، ولكن الأمور اليوم مختلفة، وإذا ما عدنا إلى التجربة
التاريخية فسنرى: لقد انتصر “بينوشيه” لسنوات طوال لأنه شل قيادات الحركات
والأحزاب السياسية بالتصفية والتعذيب والاعتقال، ولكنه هزم، عندما عمد
الناس مابين عامي 1983 – 1987 لتنظيم أنفسهم بأنفسهم وخرجوا باحتجاجات
استمرت 22 يوما وشملت جميع أنحاء البلاد. وكان عليه إنزال الجيش إلى
الشوارع، عندها أصبحت شيلي عصية على الحكم، وكان واضحا أيضا أن الاستثمارات
العالمية ستتعطل، وهنا كانت نهاية نظام بينوشيه. والدرس الذي يمكن أن
نتعلمه هو: عندما يتمرد الشعب بأكمله لا يستطيع الجيش أن يفعل شيئا. وهذا
ما شهدناه عام 2011 في مناطق الجنوب عندما خرج الناس بأجمعهم إلى الشوارع
احتجاجا على أسعار الغاز المرتفعة، وفي الآونة الأخيرة اضطرت الحكومة إلى
التفاوض مع الحركات الاجتماعية في منطقة “آيسن”، حول ظروف معيشية أفضل، بعد
أن استطاع الشيوخ والشباب في العاصمة هزيمة القوات الخاصة.
ويرى “سالازار” أن الحركات المطلبية تضم في داخلها قوى قادرة على تحقيق
تغييرات هيكلية، ففي المطالب المحددة هناك دائما مكان للصراع مع مركزية
العاصمة، هذه المركزية التي تعمل على إفقار مناطق الأطراف، فعلى سبيل
المثال تنتشر اليوم سلسة من الأسواق و مراكز التسوق العملاقة، هذه الشركات
لا تدمر فقط المحلات الصغيرة في الأطراف فقط، بل تعمل على نقل الأرباح
وتركزها في العاصمة، لتستثمرها من جديد في افتتاح أسواق جديدة. وعندما
تطالب الحركات الاجتماعية هذه الأسواق باستثمار 30 بالمائة من أرباحها في
مناطق الأطراف فان هذه المطالبة تمثل فعلا ثوريا.
وعن الحركات الجديدة والحراك الاجتماعي في وطنه يقول “سالازار”: هنالك
اليوم سبعة تجمعات جماهيرية في المحافظات تدير مفاوضات مع الحكومة، على
الرغم من أنها تجمعات غير برلمانية ولا تملك أدواراً دستورية، فضلا عن مئات
المجموعات القاعدية في البلديات وفي الأحياء السكنية. وكل شيلي اليوم
تناقش وتريد تنظيماً مختلفاً للمجتمع، وتتوزع القوى الفاعلة على مختلف
الطبقات والفئات الاجتماعية، سواء كانوا العاملين في قطاع الصحة، أو عمال
الغابات، أو مجموعات السكان الأصليين “الهنود الحمر”، نحن نشهد اليوم سلطة
ثانية في البلاد تنبثق من الأسفل.

رشيد غويلب -طريق الشعب