المنشور

المدني والديني في الدولة العربية المعاصرة

   
في واحدة من مفارقات عديدة أبانتها انتفاضات “الربيع العربي” وعرَّضتها لبعض الأضواء الكاشفة التي ربما تكون أسعفت بعض المراقبين والراصدين لحركة الأحداث في الاستدلال على بعض أكثر المسائل الإشكالية أو بالأحرى الاختلالات الهيكلية المتصلة مباشرة بالإدارة السلطوية الكلية، التي تعتور النسق الحياتي التنموي، الجاري والمتراكم، للمجتمعات العربية – في إحدى تلك المفارقات ظهر الفريق أحمد شفيق المرشح الثاني في جولة الإعادة (الثانية) لانتخابات الرئاسة المصرية (16 – 17 يونيه 2012) في إحدى خطبه الدعائية السياسية إبان حملته الانتخابية وهو يقدم نفسه لجمهور الناخبين المصريين كممثل للدولة المدنية وحامي حماها.
 
أما الرسالة التي أراد شفيق إرسالها من وراء الحرص على ترداد هذه المقولة أكثر من مرة وجعلها أحد العناوين الرئيسية لحملته الانتخابية، فهي واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وتتمثل في تنبيه واستثارة غريزة الخوف لدى العامة من الدولة الدينية التي يمثلها خصمه مرشح جماعة الإخوان المسلمين الدينية الدكتور محمد مرسي.
 
ومثلما أن للرسالة المسيسة دينياً والموجهة خصيصاً للكسب السياسي المحض، لها، كما هو معلوم، مفعولها السحري العجيب على عقول وأفئدة كافة خيارى الناس وأتقيائهم وأنقيائهم بسبب المكانة الخاصة لكل ما يتصل بأمور الدين الحنيف لدى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإن الرسالة الميسية الموجهة خصيصاً للتهويل من عواقب ومخاطر الدولة الدينية التي سيقيمها الإسلاميون في حال وصلوا للسلطة، لها بالمقابل، وقع خاص وصدى واسع على أسماع شرائح مجتمعية واسعة وعلى أوساط الرأي العام عموماً المرتبطة مصالحها وأنماط حياتها المعيشية بالمجتمع المنفتح المستظل برعاية الدولة المدنية.
 
إنما السؤال هو: إلى أي حد يمكن الذهاب في مساءلة مصداقية ترداد الفريق أحمد شفيق لعبارة إنما هو يمثل الدولة المدنية، ومن ثم القياس على هذا الزعم بإماطة اللثام عن تفكيك الدولة الحاكمة في العالم العربي؟
 
نزعم أن الباحـث الموضوعي في هذا الموضوع البالغ الأهمية لن يحتاج إلى الغوص عميقاً في أغوار الدولة العربية المعاصرة والذهاب بعيداً في دراسة وتحليل الحالة (Case study) ، كعينة، وهي هنا مصر، قبل التحول للمرحلة الثانية من دراسة الحالة وهي الإسقاط العميم ولكن المنهجي الحذر. نقول ذلك ولكن مع الاستدراك بأن الحالة تنطوي على نوع من التركيب والتعقيد بسبب تداخل المدني والديني في مكونها. إنما سوف يجد الباحث فيها من المعطيات ما يغنيه عناء الاضطرار للإبحار عميقاً، كما أسلفنا، في دراسة الظاهرة.
 
فالحال أن الدولة العربية المعاصرة – مع التأكيد هاهنا على أهمية التفريق (وليس الفصل) بين الدولة ككيان اعتباري وبين نظام الحكم المسيِّر لجهاز الدولة المترامي الأطراف – هي دولة مدنية دينية في الشكل والمضمون. ففي حين لعبت أجهزة التسيير الحكومية لأنظمة الحكم المتعاقبة على تولي زمام إدارة شئون الدولة منذ ما قبل الاستقلالات الوطنية، وتحت تأثير وتوجيه الإدارات الاستعمارية المختلفة – لعبت دوراً مهاً في محاولة عصرنة الدولة العربية ومواكبتها لمتطلبات التواسق مع نظام العلاقات الدولية المعاصر ومع أدوات وثقافة إدارته – إلا أنها في ذات الوقت حرصت بنفس القدر على إضفاء الطابع الديني على كافة قسمات أوجه هذه الدولة وذلك في تجسيد حي وساطع لإحكام ربط الدولة كجهاز تسيير مجتمعي وتنموي بالدين.
 
وقد تكون أنظمة الحكم العربية المتعاقبة قد وجدت في هذه التوليفة التوفيقية بين الدولة والدين، المقاربة المثلى المحققة لهدفي الفوز بمزية الانتماء للأسرة الدولية والحصول على شرعيتها من جهة، والاستفادة في الجهة الأخرى من فرصة توظيف الدين للسيطرة على المجتمع وتأمين وتعظيم واستدامة القوى القابضة على مقاليد الحكم في الدولة.
 
وعلى ذلك فإنه وباستثناء الدولة التونسية في عهد جمهوريتها الأولى بعد الاستقلال عن فرنسا في 20 مارس 1956، وهو عهد قائدها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، الذي تميز منذ البدء بمحاولة نقل التجربة العلمانية الفرنسية خصوصاً فيما يتعلق بتقنين علاقة الدولة بالدين في توجه صريح لتجاوز نمط الدولة العربية الهجين السائد، نحو دولة مدنية حداثية تعتمد المواطنة التي تساوي بين جميع أفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً، أساساً لعلاقة الدولة بالمجتمع وأفراده – باستثناء ذلك فإن كافة نظم الحكم العربية اختارت رفد الدولة المدنية بمكونات الدولة الدينية الأساسية للاستفادة والاستعانة بها في إدارة شئون الحكم والدولة معاً.
 
وعلى ذلك فإن ما ظل يردده المرشح الخاسر في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة المصرية الفريق أحمد شفيق من انه يمثل الدولة المدنية لا يعكس سوى نصف الحقيقة أما النصف الآخر فهو انه ونظام السادات ومبارك قبله يمثلون الدولة المدنية الدينية المشتركة، وإن كانت جرعات إحداهما تطغى على الأخرى في فترة من فترات الحكم أو في عهد من العهود، كما حدث مثلاً في عهد السادات الذي ارتفعت في عهده جرعات الدولة الدينية بصورة سافرة للغاية.