المنشور

الربيع بمذاق سوداني

تُكرر
سلطات السودان خطيئة نظيرات لها في بلدان عربية أطاحت شعوبها أنظمتها، حين
تصف الجموع المتظاهرة في شوارع الخرطوم وسواها من مدن سودانية مطالبين
بالعدالة وبلقمة العيش الكريمة، بالرعاع وشذاذ الآفاق والخونة والعملاء، من
دون أن تنسى القول إن السودان ليست مصر ولا تونس . لعلنا، في هذا المقام،
نتذكر أنه عندما اندلعت ثورة 25 يناير في مصر مستوحية النموذج التونسي،
قالت أجهزة الإعلام المصرية الرسمية إن مصر ليست تونس، وما حدث فيها لن
يحدث عندنا، ولكنه، رغم ذلك، حدث .

الأمر
نفسه قاله معمر القذافي الذي ظل يزعق: “من أنتم؟”، مكيلاً الشتائم إلى
أبناء شعبه واصفاً إياهم بالجرذان والحشرات، وشيء مشابه قِيل في اليمن،
وهاهو عمر البشير، يهش على المريدين بعصاه وهو يهدد ويتوعد، قائلاً: إن ما
يجري في بلاده لا علاقة له بالربيع العربي .

ولكن،
إنصافاً للتاريخ، يتعين القول إن الربيع السوداني سبق “الأَرْبِعَة
العربية” كلها، حين أسقط السودانيون في انتفاضة سلمية حُكم جعفر النميري
الذي سبق أن علق على المشانق خيرة أبناء السودان وأذكاهم، وأقاموا حكومة
ديمقراطية، لكن ثنائي حسن الترابي وعمر البشير أسقطاها بانقلاب عسكري، ذهب
بما اختاره أبناء السودان وبناتها . ولولا هذا الانقلاب، كان سيقُيض
للعملية الديمقراطية التي أطلقتها انتفاضة السودانيين على حكم النميري، أن
ترسخ قاعدة  للتداول السلمي للحكم،
وأن تُجنب البلاد الكثير من المآلات الدامية التي قادتها إليها هذه
السلطة، من حروب أهلية، أفضت في ما أفضت اليه، إلى تقسيم السودان إلى
دولتين، وما زالت مخاطر الانفصال تهدد أقاليم أخرى في ما تبقى من  الدولة السودانية بعد انفصال الجنوب عنها، ناهيك عن التوترات وحالات الكر والفر على الحدود بين دولة الشمال ودولة الجنوب .

ربيع
السودان لم يأتِ متاخراً، لأنه، في العمق، امتداد لربيع سابق تم إجهاضه من
قبل القوى التي اتخذت من الإسلام عباءة لها، وعلى خلاف ما يقال الآن في
أكثر من مكان عن أن التيارات الإسلاموية لم تمنح فرصتها في تسلم السلطة في
العالم العربي من قبل، فإن القاعدة الإيديولوجية للحكم السوداني الراهن هي
قاعدة “إسلاموية” بامتياز، وقد اختبرت في الممارسة بما يكفي ويزيد من
الوقت، وكانت الحصيلة علقماً مراً، ولعل هذا ما يفسر، إلى حدود كبيرة، كيف
ألا تحظى انتفاضة السودانيين الحالية بما هي أهل له من احتضان ودعم من
القوى التي استوت إلى الحكم في الآونة الأخيرة، بعد انتفاضات وثورات صنعتها
الشعوب، وقطف ثمرتها من التحقوا بها متأخرين، في واحدة من المفارقات
العربية .
السودانيون
يضعون بصمتهم في التحولات الجارية في العالم العربي، وهي بصمة خاصة،
مختلفة، من خلال ربيعهم ذي المذاق المختلف، لا في مسميات أيام جمع الاحتجاج
التي برعوا في اختيارها، وإنما، في الأساس، لأنهم يوجهون رسالة تحذيرية
إلى الشعوب العربية الأخرى بألا تسمح بتكرار نموذج الحكم السوداني الراهن
المعجون من الصلصال ذاته الذي عجنت منه القوى التي استوت، أو تتهيأ
للاستواء، على كراسي الحكم في البلدان العربية التي طالتها وتطالها
التغييرات، عبر فرض الآليات الديمقراطية التي تفتح لهذه الشعوب آفاق
التغيير المستقبلي وتمنع “تأبيد” المكوث على الكرسي .