المنشور

التاريخ الصافي والتاريخ المونتاج

ما زلنا شهوداً على مجريات وتداعيات ما اعتدنا وصفه بالربيع العربي، ورغم ذلك فإننا بصدد روايات متعددة، لما جرى ويجري، هذا ونحن لمانزل نقع في الحاضر، فما يدور حولنا  لم يصبح ماضياً بعد، رغم أن الأحداث التي نشهدها هي أحداث تاريخية بامتياز،  منظوراً إليها من زاوية جسامتها وكونها كسراً لرتابة وجمود امتدا طويلاً . ولكن ما تراكم كمياً تحت السطح عبر ويُعبر عن نفسه بنقلات نوعية، لا سبيل إلى نكران دوره الحاسم في الأخذ بنا من حال إلى حال، بصرف النظر عن طبيعة الحال الجديد أو طريقة تقييمنا له .

لكن إذا كنا إزاء الحدث الجاري حولنا نملك هذا العدد من الروايات المتناقضة في زمن بات كشف الحقائق فيه أيسر وأسرع، كما يُظن، بسبب نفوذ الميديا ووسائل الاتصال الحديثة، فما بالنا بأحداث جرت منذ قرون؟ أين لنا أن نتيقن من أن ما قرأناه أو درسناه عن وقائع التاريخ هو ذاته الحقيقة الصافية التي لم تخالطها الأهواء والتأويلات غير المنزهة من الغائية؟

بوسع عالم الفيزياء أو الكيمياء أن يجري الاختبارات العديدة، المتكررة، في المختبر للتحقق من النتائج العلمية التي بلغها، فلا تعدو “حقيقة” متداولة إلا بعد فحصٍ متأنٍ، فيما الباحث في العلوم الاجتماعية يشتغل في فضاءات اجتماعية ومعرفية معقدة تجعله عرضة للخطأ أكثر من عالم الطبيعة، لأنه لا سبيل سريعاً إلى اختبار خلاصاته والتحقق من صحتها .

الاختبار والتجربة أمران غير ممكنين في الدراسة التاريخية، فكل واقعة من وقائع التاريخ المسلم بها قائمة بذاتها، وليس في الإمكان تصور ظروف يتكرر فيها وقوعها حتى يمكن الجزم بصحة ما قيل من استنتاج عنها، لذا يبدو طبيعياً ألا يتفق المؤرخون على ما هو مهم وما هو ليس كذلك .

ويبدو أن الحاجة الدائمة التي لا تنتهي إلى إعادة التأويل، حيث لا منجز نهائياً في هذا المجال، حين تصبح جميع الأحكام خاضعة لإعادة الفحص والتدقيق، هي ما يفسر ما ذهب إليه ابن خلدون في “المقدمة” من “إن التاريخ في ظاهره لا يزيد على أخبار سياسية عن الدول والسوابق من القرون الأول، إلا أنه في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعد في علومها وخليق” .

منذ أن وثّقت “سي إن إن” بالصورة الفورية مجريات حرب إخراج القوات العراقية من الكويت، بات مألوفاً أن كاميرا الفضائيات كثيراً ما تكون موجودة في الحروب لحظة إطلاق الصواريخ أو قصف الطائرات لأهدافها أو تصويب المسلحين بنادقهم نحو من يصطفونه ضحية لهم . لكن من قال إن هذه الكاميرات حرة من الأهواء ومنزّهة من داء انتقائية الزاوية التي منها تلتقط الصورة؟ وكم من الوقائع في الحرب ذاتها، وفي البلد ذاته، التي تغيب عنها الكاميرا المعنية، وفي كثير من الأحيان ليس بمحض المصادفة وحدها؟

لذا علينا ألا ننقاد للوهم بأن هذا التوثيق الحي المصور يعني أن التاريخ يسجل كما هو من دون رتوش أو حذف أو إضافات . إنه يقدم بالطريقة ذاتها التي قدم بها، مجزأ ومحرفاً تبعاً لأهواء من يختار المكان المناسب لمنصة التصوير، أو من يقوم بإجراء “المونتاج” اللازم للواقعة، فنكون إزاء التاريخ المونتاج لا التاريخ الصافي .